ملاحظة : الموضوع يحتاج قراءة خاصة تتوافق ومغزى النص تجاوزيا .فلا أنصح بقراءته أحد ممن يقرأون كلامًا فقط .
لا يمكن التعبير عن الحقيقة .. كل تعبير هو خروج عنها وخروج عليها .التعبير هو تشويه ، هو تسفيه ، هو باطل .. والاسترسال في فلسفة التعبير عن الحقيقة بأكثر دقة وأكثر بلاغة وأكثر عمقا ، هو استرسال في التكثيف والمضاعفة لطبقات من أقنعة أكثر شفافية على وجه عار ٍ بقصد الكشف عنه ، هو أخرس لايني يصف لأعمى منظرا ً رآه في المنام .. التعبير عن الحقيقة – سواء بكلمة أو بريشة أو بآلة موسيقية أو بحنجرة أو بحركة – هو بمثابة خلق من "عدم" لأشياء أخرى لا تمت للحقيقة مباشرة ، انها تقترب منها وتظل خارجها ، كما تنعكس الصور في المرآة دون تماه ٍ معها وتفان ٍ فيها .. كما يصعد صاعد للطابق العلوي ثم يظل واقفا في الخارج ولا يدخل ، فهو مع المكان نفسه على حد سواء، لكنه منفصل عنه في آن . مع ذلك لا شيء يخرج من الحقيقة ولا شيء يمكن ان يوجد بدونها – انه التناقض الذي حطم المنطق الشكلي وأحل مكانه المنطق الجدلي في تصاعد الروح لقمتها حيث ذوبان الحرف -. ولهذا السبب – أي في غياب القدرة وفي عدم الإمكانية للتعبير عن الحقيقة - ابتدع المؤمنون من لاوعيهم العاطفي والوجداني ،لدى أتباع جميع المذاهب الدينية ،عبر الزمن ، بدءا من عبدة ظواهر الطبيعة حتى عبدة الأديان السماوية وسواها، مرورا بعبدة الأوثان والطواطم ..ابتدع المؤمنون طقوسا حركية حسية ،تمائم وتعاويذ وأدعية وصلوات وشعائر ، تعبيرا عن الاتصال ، أو عن الرغبة في الاتصال بالحقيقة .. وهم من الحقيقة روحها دون علمهم ودون كشفهم لذلك داخلهم ،وهم بما هم عليه من نشاط مرتبط بلغة سيكيلوجية الغيب الديني ،كالأنوار تطلب ذاتها في ظلال تنعكس عن أجسام تباشرها ، فلا تنتبه لا لذاتها ولا للأجسام ، بل فقط للظلال ،أما ذاتها فهو النور ،الوعي المحض ،وأما الأجسام فهي أسباب الجهل الحائلة دون إدراكها للحقيقة ،وهي أفكارها ،مخاوفها وأطماعها ، بينما الظلال هي الموضوعات والأغراض الحسية . ويصدق أفلاطون بما جاء من تمثيل عن صلة الإنسان بالحقيقة في حكاية الكهف الشهيرة ، حيث يبقى بمعظم ما جاء به ،هو وأمثاله من حكماء متحققين ، موضع اعتبار أسطوري لا أكثر في نظر أغلب الباحثين . وفي يومنا هذا وحتى أواخر النصف الأول من القرن العشرين ،ظهر حكيما هنديا كونيا، لقب بالحكيم الصامت ،هو بغفان رمانا مهريشي ،كان من أفضل وأرقى وأطهر من مثل اللاتعبيرية من بين المستنيرين ، إذ عاش الحقيقة دون تعبير منذ صغر سنه ،إلا مضطرا عندما كان ُيلَح عليه بالسؤال والكلام ،وكان يرد بأقل عدد من الكلمات وبأكثرها مباشرة ،وكثيرا ما كان يعتذر عن الكلام لسائليه ،بل يهرب يعتزل ويتوحد بعيدا عن كل تعبير .. باعتبار التعبير عادة صدور من غطاء يغلف الحقيقة ، يبرز عن حاجة للتشخصن والتضخم الأنوي التقييدي ،في حال التشتيت الذهني " הסחת דעת " .. رغم ان من التعبير ما يصدر تلقائيا كمطالب بيلوجية طبيعية ،وكعادات اجتماعية وكحاجة نفسية "للتفكك" بمعنى התפרקות .. تنفيس، لكن التلقائية هنا ليست تلقائية الحقيقة التي هي قائمة وسط آلاف الحاجات دون تكلف ودون تصنع ودون روية ودون احتساب ومشاورة ونقاش ، بل هي تلقائية المتدحرج في السفح ، أي بقوى خارجية غير أصيلة وغير طبيعية بل مكتسبة وناشئة عن تربية وتوجيه وتلقين من قبل أناس ،صدروا بعلومهم وفلسفاتهم عن ظلال انعكست عن جواهرهم،بصورة غير مباشرة، وهم غير موجودين اليوم في لحظة التعبير ..انه عمل الأجيال السابقة كلها في الحاضر ، وهي سلسلة خروج وتكاثف بالتعبير،بينما أن تبقى بدون تعبير ، هو ان تكون عاريا بدون تفكير بدون أنا بدون عائق بدون حد بدون أحد سواك ، وهذا يعني مطلقك دون زيادة ولا نقصان ،من شعور ومن لا شعور ،من فكر ومن لا فكر .وهو تحقق معنى " مضى حضر أو يُنتظر" بالنفي ،وهو تطبيق العهد بينك وبين الحقيقة التي هي الله ،بأن تتجرد من كل ما سواه فيك ،وفي لحظة حدوث ذلك تنتبه الى انه عمليا لا يوجد شيء سواه ،لا يوجد إلاه ، وكل ما كان يظهر كخليقة وكعالم ومخلوقات انما هو ذاته في صور كثيرة ومختلفة ومتعددة هي "الصور المتعددة للمعبود الواحد في مرآته" . وهنا يتحقق معنى التسليم ،تسليم كل شيء ورده للحقيقة ،ثم الرضى بما يحصل كيف ما كان ، وأينما تولوا فثم وجه الله .. والمتشوق الباحث المتحقق يلاحظ كيف ان الطلب الأخير للوجود يتجاوز نفسه في واقع ظهوره ، كما ان النص الحكمي والديني ينقض نفسه جدليا في سبيل تجاوز ثنائيات التعبير المختلفة، كإنعكاس لعروج وتحقق الطالب العرفاني ،الذي يلتحم بلمحة كليا مع الحقيقة (لن أعرض هنا أمثلة في ذلك من أي نص لأي مذهب ،إذ ان هذا سيفتح مجالا للتشاطر والتذاكي في التأويل والتفسير خارج نطاق التجربة ) وهذا ما بلبل الكثيرين بقراءتهم المعنى التجاوزي للنص ،وجعلهم يشكون في صحته ظانين وقوع التناقض فيه . ومن هنا يأتي الاستنتاج ايضا بأن فهم الحكمة العليا كنص ،لا يمكن قبل الكشف عن جوهر النفس ،وهذا يتم في لحظة تجريدها بالارتفاع فوق ثنائيات الإدراك فيها بلمحة واحدة باهرة ماحقة .
ما هي الواجبات والتكاليف والفروض في هذا المقام وما هي القيم ؟
مقام الكشف هو مقام الحرية ،يحل عمليا مكان جميع التكاليف والواجبات والفروض ،من صلاة وطقوس وشعائر .. حتى آخرها ،باعتباره قِبلة كل نشاط .
أما القيم الروحية والدينية كالزهد والتقوى وفعل الخير ،فإنها تفهم وتؤخذ فيما يتعدى المفهوم الحسي الظاهر – دون تنكر لقيم الظاهر النظيفة من الجهل الأناني طبعا - فليس الزهد هنا هو مقاومة الرغبات الطبيعية للجسد ،بل النظر إليها من حيث كونها مستقلة عن الذات الجوهري باعتبارها موضوعية من فعل الطبيعة الخالصة البراء ،فما النزعة لقمع الرغبات المحسوسة تلقائيا إلا بسبب التماهي الجاهل مع الجسد واعتقادنا بأننا نحن الجسد ونحن أصحاب أفعاله الطبيعية ،بينما المحسوسات الصادرة تلقائيا عنه في صورتها الأولية تابعة كليا للطبيعة الخارجية ، ولا نصبح مسؤولون عنها "أخلاقيا " إلا عندما نتبناها عقليا ونفسيا فتتشكل كجزء من ضميرنا الاجتماعي والديني ،أو الإلحادي على السواء، فنضخمها باعتقادنا انها صادرة عنا مباشرة ، ولذلك فإن الزاهد بالقوة وليس بنور الحكمة ، يقاوم ويعاند جسده في محاولة عبثية للتخلص من شهواته ورغباته الطبيعية ، في حين يُقبل عليها المنحل الخليع بكليته ، وعندما يحصل المرء على مقام الكشف العميق والاستنارة يستقر ويعتدل في الوسط بين التفريط والإفراط ،وهو مقام الزهد الحقيقي .. وإلى هنا يكفي اليوم .