وردة تستجدي الحياة

بقلم : حوا سكاس,
تاريخ النشر 29/04/2012 - 09:40:29 pm

الهدوء خيّم على غرفة الجلوس الصغيرة، الضيّقة. كلهم جلسوا بانتظارها، يرشفون القهوة بتوتر وحذر ولا أحد منهم تفوّه بكلمة ولا همسة. جلست الأم الى جانب زوجها، تحرّك جسدها قليلا يمينا وشمالا، ولا أحد من الرجال الثلاثة كان يعلم بما يدور بالضبط في رأسها وماذا تحسّ، ولا أحد خطر في باله السؤال: كيف أخبرت زوجها ليلة أمس بأمر ابنتها، وردة.
وردة هي ابنتها الكبرى بين أولادها وبناتها. بلغت من العمر خمسة وعشرين عاما ولم يتقدم أحد بعد لخطبتها. والقلق يقضم قلب الأم خشية ألا تجد زوجا يسترها ويحميها، بعد أن تزوج إخوانها الثلاثة وأختها التي تصغرها بثلاث سنوات، وها هي أختها الصغرى تستعد هي الأخرى لزواجها قريبا، ووردة... ما تزال دون زواج. إنها فتاة سمراء، عذبة ورقيقة، لا يُرى على وجهها عبوس ولا سخط، يفيض جسمها بالصحة والنشاط ويتّقد وجهها بالفرحة والحيويّة، ولكن... ما العمل وملامح وجهها تفتقر ذلك الجمال الذي يلفت النظر ويجذب الإهتمام؟!
كانت وردة تخرج كل يوم من بيتها على ظهر الحمار لقطف العكوب الذي نبت في الحقول بعد سقوط أمطار الشتاء على سهول الجليل الأسفل وتلالها، التي اكتست بالخضار وامتزجت بالصفار، وتعود الى البيت بعد الظهر. وهناك، تحت هدوء السماء وجمال الطبيعة الخلابة التي تحيطها، تتمدّد على العشب الأخضر، وكأنها تمتزج مع هذا الجمال الأخّاذ، تحسّ بفرحة كبيرة تغمرها، فترفع عينيها عاليا وتدعو السماء بالخفاء أن تبعث لها زوجها الذي تتوق اليه نفسها، تغلق عينيها وتبقى تحلم، وكم كانت تتمنى لو تفتح عينيها وتجد حلمها الصغير قد تحقّق! ولكن السماء كأنها أغلقت أبوابها، لم تستجب لدعواتها الصادقة.
وفي أحد الأيام، ابتعدت كثيرا وهبطت الى الوادي في أعقاب العكوب لقطفه من حقول الفلاحين. وبعد أن أثقلت على الحمار الى حد الإرهاق قررت العودة الى البيت، وأخذت تصعد الجبل في طريق عودتها الى البيت.
وفجأة، ظهر أمامها رجل!
"هل يمكنني شراء العكوب منك؟" سألها الرجل الذي كان يرعى أغنامه في تلك المنطقة الجبلية.
فردّت وردة: "لا."
"النصف فقط."
فكّرت قليلا، ثم قالت: "حسن. وكم ستعطيني؟"
"كم تريدين؟"
فأعطاها المبلغ الذي طلبته وافترقت عنه راضية. وبعد أن عادت الى بيتها خبّأت المال في كيس ووضعت الكيس تحت فراشها.
في اليوم التالي، فوجئت برؤية الرجل مرة أخرى في نفس المكان الذي التقته من قبل، وطلب منها أن يشتري منها العكوب، فباعت له نصف الكمية التي كانت بحوزتها. وفي اليوم التالي، قررت مضاعفة كمية العكوب التي تقطفها في الحقول، وعندما التقت الرجل طلبت منه مبلغا أكثر مقابل العكوب، فجمّعت مبلغا جيدا من المال خلال وقت قصير، لم تخبر به أحدا.
وهكذا، كانا يلتقيان كل يوم لتبيعه العكوب وبدأت تتسرّب بعض الكلمات بينهما حتى تعرّفا على بعضهما البعض وعرفت أن اسمه أسعد.
"ماذا تفعل بالعكوب؟" طلبت أن تعرف.
"أنا أبيعه في بيوت القرية."
"وهل تكسب من ذلك؟"
"طبعا، أنا أكسب... وأستمتع باللقاء معك."
أحسّت وردة بالحمرة الطافرة على وجنتيها وكانت تعلم أن هذه أول مرة تسمع فيها إطراءً من أحد.
ثم سألته: "أين توجد قريتك؟ وماذا تسمى؟"
"قريتي تسمى عين البارود." وأشار لها بيده باتّجاه القرية التي بدت من البعيد في طرف الوادي الصغير عند سفح الأراضي الجبلية، وأخبرها عن موقع بيته في أطراف القرية.
في اليوم التالي، بعد إتمام صفقة البيع والشراء بينهما، إقترب منها أسعد فجأة... وقبّلها! فصُدمت وردة أشدّ صدمة وصفعته على خدّه كبرق يصعق الأرض. ذُهل أسعد ووقف مرتبكا وحائرا أمامها ولم يقل شيئا. بعد لحظات طويلة من الصمت المتوتّر بينهما، قال دون أن يرفع اليها عينا: "آسف أني فعلت ذلك."
فألقت عليه وردة نظرة تفيض خيبةً. "وأنا آسفة." قالت، وعادت الى بيتها.
في اليوم التالي، حين التقته من جديد، لم تخفَ تكشيرة وجهها على أسعد. فبادرها بالسؤال: "ألم تسامحيني على ما فعلت البارحة؟"
"أنت... فاجأتني."
"أعرف. وأنا أيضا كنت متفاجئا من نفسي. صدقيني، لم أخطّط لذلك. ولكنه... حصل."
"يعني... لن تعيدها ثانية؟"
"لا، إن كانت هذه رغبتك."
نظرت اليه وردة، تأمّلته للحظتين وفكرها قد تشتّت عليها. ثم قالت وصوتها يتردد: "نعم... هذه رغبتي."
في الأيام التالية، إلتزم أسعد بما وعدها، ولكن بعد أسبوع واحد فقط لم يعد قادرا على تحمّل الوضع، فقال لها بنبرة تستثير العطف: "وردة، أما زلت خائفة مني؟ لماذا لا تدعينني أقترب منك؟ أريد منك قبلة صغيرة فقط!"
ضحكت وردة من كلامه وتعجّبت من إصراره. "حسن، اذا كانت هذه رغبتك." وسمحت له بأن يقبّل خدّها. ثم ابتسمت قليلا وذهبت في حال سبيلها.
في اليوم التالي، بعد أن سمحت له بتقبيل خدّها، لم يبتعد عنها. قال لها راجيا: "دعيني أقبل شفتيك."
"وما الفرق؟"
"هكذا أحبّ."
لم تمانع. وبعد أن أتمّ قبلته التي طالت أكثر مما توقّعت، ابتسمت وردة لنفسها وعادت الى بيتها وهي تحسّ بنشوة غريبة قد اكتسحت جسدها.
في الأيام التالية، لم يظهر لها أسعد. بحثت عنه وردة في المكان الذي كانا يلتقيان فيه دائما والمنطقة المحيطة به، ولكنها لم ترَه في أي مكان. فتعجّبت من أمره: أين هو؟ لماذا لم يعُد يأتي؟ ماذا جرى له؟ وأحسّت بالشوق الذي يملؤها لرؤيته، شاقها غيابه وتملّكها الحزن.
بعد انقضاء أسبوع، فجأة، ظهر أمامها في مكانهما المعتاد وابتسامته اللطيفة تشعّ على شفتيه.
"أسعد؟ أين كنت كل هذا الوقت؟ لماذا لم تعُد تأتي للقائنا؟"
"كنت مسافرا والبارحة فقط عدت. ولكنني اشتقت اليك جدا." قال واقترب منها أكثر.
لم ترُد. وهو سألها بعد لحظة: "وأنت؟"
"ماذا عني؟"
"ألم تشتاقي إليّ؟"
تردّدت وردة قليلا، وشعرت بالإرتباك أمامه كثيرا. أرادت أن تبتعد عنه بخطوة. ولكنه اقترب منها، رفع يده اليها ولامس وجهها بأنامله بنعومة مدهشة. نظرت اليه، فرأت وجهه يقترب من وجهها، ولم تمانع حين أخذ يمطرها بقبلاته الحارة على كل أجزاء وجهها، ويداه تقبضان عليها بقوة، كأنه خائف أن تفلت منه، ولكنها لم تحسّ سوى برغبة أن تذوب بين يديه وتحت ثقل جسده الذي أسقطها أرضا، وانتفض جسدها وضجّ برغبات هائلة تفجّرت من حيث لا تعلم... وسقطت بينهما الحواجز والسدود.
باتت وردة تذهب كل يوم للقائه بلهفة واشتياق. لا تعرف ما الذي يجري لها وماذا يعتريها حين تلتقي به ويلمسها. تعرف فقط أنها سعيدة كما لم تكن يوما في حياتها، وكانت تتمنى في داخلها لو يأتي الى أهلها ويطلبها للزواج.
وفي يوم، قرّرت أن تسأله ذلك، فوعدها أن يأتي لخطبتها قريبا، وعادت وردة الى بيتها سعيدة ومنتشية وفي قلبها تحسّ أن أسعد سيلملمها أخيرا من خيبة أعوامها ويحقّق لها حلمها الذي أصبح أكثر جمالا.
مرّت الأيام، ولم يأتِ أسعد لخطبتها. ووردة لم تخرج الى الحقول لمدة، إذ توعّكت صحتها بشكل مفاجئ وبقيت في فراشها راقدة.
"ما بك يا ابنتي؟" سألتها أمها بخشية. "ما الذي جرى لك؟"
"لا أدري، يا أمي. ولكنني مريضة."
ولم يمضِ وقت طويل حتى أدركت وردة أنها... حامل!
في اليوم التالي، استجمعت كل قواها وخرجت الى الحقول باحثة عن أسعد. وحين التقته، سألته: "متى ستأتي لتخطبني من أهلي؟" وأخبرته عن حملها! فامتقع لونه ولاح على وجهه يأس داكن.
"عليك أن تعرفي عني أمرا ما." قال بصوت ينضح مرارة. ثم أضاف متمتما: "أنا... متزوج."
"ماذا؟"
"نعم. هذه هي الحقيقة. ولدي خمسة أولاد."
"ولِم لم تخبرني؟ أنت وعدتني بأن تأتي لخطبتي."
"بل قلت لك سأحاول جاهدا."
"ماذا أفعل الآن؟ ماذا أفعل بنفسي؟"
"أرجوك أن تهدئي يا عزيزتي. سنجد حلا."
"وما الحل غير أن نتزوج يا أسعد؟ ما الحل؟"
ووعدها أسعد أن يفعل كل ما بوسعه كي يجد الحل... ثم افترقا.
ومرّت الأيام... ولم يعُد أسعد يأتي للقائها، وبطن وردة يكبر يوما بعد يوم، حتى لم يعُد باستطاعتها إخفاءه، فسكتت ابتساماتها، وانطفأت نظراتها، واستحوذت الكآبة على كل كيانها، وخاب حلمها الصغير في داخل صدرها. لم تدرك وردة ماذا تفعل. وأخيرا قررت أن تخبر أمها وتشاركها بمصيبتها علّها تحمل عنها جبل همّها وتجد لها حلا. وسقط الخبر على الأم كالصاعقة! ولكن... ماذا كان بوسعها أن تفعل؟ ضاق صدرها وبقيت صامتة وواجمة لأيام، حتى شعر بوجومها زوجها فألّح عليها أن يعرف ما خطبها. وهكذا، أخبرته بكل شيء!

هبط المساء على الغرفة الصغيرة والعتمة تسلّلت الى كل زواياها. نظرت الأم الى زوجها بقلق. بدا وجهه جامدا، عديم التعبير. لم تجرؤ على التفوّه ببنت شفة وتابعت تُحرّك جسدها يمينا وشمالا والخوف يعتصر قلبها.
ثم وصلهم صرير الباب الذي ينذر بعودتها، فخفق قلب الأم خفقة أحسّت معها كأنه سيخترق من صدرها، تجمّدت في مكانها وانقطعت أنفاسها. لم يتحرّك أحد منهم. هدوء تام سقط على الغرفة.
إقترب وقع خطواتها ببطء... بحذر... بخوف، حتى ظهرت بلحمها وشحمها عند عتبة الباب. فتسمّرت في مكانها لرؤية منظرهم وأخذت تحدّق في وجوههم واحدا واحدا.
وفجأة... قام أخوها صالح من مكانه، وانتصب أمامها بكل جلاله. "تعالي معي الى الغرفة." قال لها دون مقدمات.
"لماذا؟" سألت وردة وقد سرى اليها الرّوع.
"أريد التحدّث اليك."
"بشأن ماذا؟"
"ليس بحضور الجميع هنا."
"لن آتي!" قالت بإصرار وقلبها يخبرها عما ينتظرها. ثم أضافت في محاولة لتبرير اعتراضها: "أنا مرهقة وأريد أن أرتاح في غرفتي."
"تعالي يا حبيبتي، تعالي." حاول والدها إرضاءها بلطف.
"ليس الآن." حاولت تأجيل النهاية.
ثم تدخّل سمير، أخوها المحبوب ورفيقها الأمين منذ سنوات الطفولة: "لا تخافي." قال لها، ووردة واقفة في مكانها مشلولة من الرعب. إقترب منها يهدّئها بلمسة يده التي تربت على كتفها برقة، ثم أخذها الى غرفتها.
ولم يمضِ وقت طويل حتى دخل والدها الى الغرفة، وصالح وراءه يغلق الباب، فخفق قلبها بقوة جنونية، وقبض الشلل على كل أجزاء جسدها.
"وردة!" هتف بها صالح. "عليك أن تموتي اليوم! لا مفرّ لديك ولن ينقذك أحد."
"لا، لا، لا!" إنفجرت وردة بالبكاء وضجّت الغرفة بصرخاتها حتى كادت تهتزّ لها الجدران. "لا أريد أن أموت! أريد أن أعيش! أريد أن أعيش! لن تفعلوا ذلك بي! لن تقتلوني!"
"لن نقتلك الى أن تخبرينا: من هو أسعد؟ ومن أي قرية؟"
"من قرية عين البارود."
"طيب. والآن، إستلقي على الأرض لأذبحك! لا تخافي. سينتهي الأمر بسرعة ولن تحسّي بشيء."
"لا، لا!!"
اشتبكت معه في قتال مرير، ناضلت من أجل حياتها، وصالح يحاول التغلّب على التواءاتها. ثم اقترب سمير لمساعدة صالح، ولكن وردة، رغم قباحة وجهها الذي لا يلفت النظر ولا يجذب الإهتمام، كانت تمتاز بقامتها الطويلة وبنيتها القوية، فاعترضت لهم بكل عنفوان شبابها، دفعت عنها أخاها صالح بيديها، فسقط على الأرض مصدوما بها، وسقط من ورائه سمير، ووالدها واقف مذهولا ومشدوها في مكانه، فركضت وردة الى الباب، فتحته واندفعت الى الخارج... هبّت... ثارت... هاجت كالرّيح العاصفة في ليالي الشتاء الباردة... ركضت وركضت دون أن تعلم من أين جاءت بتلك القوة الجنونية التي دفعت بها ثلاثة من رجال عائلتها، هؤلاء الأقوياء الذين لم تشعر بوجودهم طوال حياتها الا بالأمان، ولم تعرفهم الا برقتهم أمامها وشدّتهم لحمايتها هي وأخواتها من الآخرين؟ ولم تعلم كيف تحوّلوا، فجأة، الى وحوش بشرية مجرّدة من كل رحمة وانقضّوا عليها إنقاذا لشرفهم دون أن يأبهوا بشرف ضمائرهم؟! إنها لم تشعر بعنفوانهم وجبروتهم الا حين كانت بأمسّ الحاجة اليهم جميعا، الى حمايتهم ووقوفهم الى جانبها أمام قسوة الآخرين، ولكنها لا بد أن تكون تلك الغريزة الكامنة في نفسها، غريزة الحياة التي تفجّرت من جوفها كبركان يجرف من أمامه كل شيء، تلك هي التي أنقذتها منهم، فركضت بكل ما أوتيَ جسدها الغض من قوة وعزيمة، دون أن تعلم وُجهتها، ودون أن تحسّ بالتعب أو الكلل أو الإرهاق، فقط ركضت وركضت تستجدي الحياة، ولم تتوقّف حتى بعد أن ابتعدت كثيرا وباتت متأكدة أنه لم يعُد باستطاعتهم رؤيتها ولا اللحاق بها. ولكنها بقيت تركض وتركض... ولم تتوقّف.

كفر كما/ فلسطين
30.3.12

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2440
//echo 111; ?>