من خلال مطالعتي للكثير من أشعار الأستاذ منير موسى ، قرية ابو سنان ، تكوّن لدي شبه يقين أن هذا الشاعر لا يهتم بأن يستجيب شعره للذوق العام ، ولا يطمح ان يصبح شاعرا من الوزن الثقيل ، بقدر شغفه أن يقول ما يحس به ويتأثر به،كمتنفس له ، وذلك عبر كلمات تبدو غالبا بسيطة للغاية ، الأمر المحفز للتساول : هل الشعر بهذه السهولة ؟ !
وهذا السؤال يفضي بالضرورة الى ما ادركه النقاد ، لا سيما النقاد القدامى ، ان مهمة الشعر صعبة وشاقة ، باعتبار انها عملية خلق وابتكار بلاغة وعبقرية. لذلك نجد روادا شعراء يبقون ويخلدون ، وثمّة قوافل تمضي وكأنها لم تكن !
وعن صديقنا منير موسى، لن اراهن على مستقبله الشعري سلبا او ايجابا ، والسبب انه محيّر بعض الشئ ، وسنرى ذلك في سياق الحديث .
" الجماهير تناضل / الجماهير تواصل / سماع صوتها / ورحيق زهرها / يحيي الانسانية / وتزدهر الحرية "
الحس الوطني ظاهر جدا في هذه الكلمات ، إلا أنكَ تميل الى الاعتقاد ان لا شاعرية فيها ! لكن الاستاذ ينقلك الى موضع آخر " تضطر " فيه ان تغيّر رأيك قليلا ، حيال الصورة الشعرية بواقعيتها المطلقة .
" باردة هي الريح تصفر / في هذا اليوم الشتوي / عاصفة هوجاء / تصارع الأشجار والبيوت "
ربما دل هذا المقطع على التشاؤم ، او الشعور بقسوة الطبيعة ، لكن المقطع الذي يليه يخفف من قتامة الصورة ، ويحاول انعاشها ، مما يوحي بأن الشاعر يميل الى التفاؤل ، والتغلب على الظروف ...
" سقطت ثمار الليمون / وتضوع رحيق النّوار / وتناثرت أزرار الورود / وفاح شذاها / وحلقت العصافير في وجل / مسقسقة في خفوت "
لا بأس بهذا التعبير ، لكنني لا أعرف ان كان بالمستطاع أن نسمّيه شعرا ، أو نثرا قريبا من الشعر ! وهذا ما دفعني للتفتيش عن ومضة ساهمت بصقلها ملكة الشعر ، أو على الأقل ثمرة مستغربة ، حتى ظننت بأنني اهتديت الى الغرابة في بيت من قصيدة للشاعر عن بابلو نيرودا .
" ومزارع الأرز والقصب / الخارجة من اللّهب "
حالة تشبيه كانت يمكن ان تلقى الإستحسان ، لكن في ميدان التشبيه على الشاعر ايضاح مقصده ، والإصابة في التشبيه ، أي أن على وجه الشبه ان يكون ظاهر الإشتراك بين المشبه والمشبه به . والشاعر لم يف هذا الشرط ، ظل التشبيه غامضا وضبابيا ،وكأني بالشاعر يقول للقارئ : عليك بحل الطلسم ، أو اللّغز !
يحضرني في هذا الصدد ابن المعتز في تشبيه البنفسج ، يؤلف بين متباينين ، مما يبعث على الإستغراب والتعجب .
" ولازوردية تزهر بزرقتها / بين الرياض على حمر اليواقيت / كأنها فوق قامات ضعفن بها / أوائل النار في أطراف كبريت "
" واللّغز " الآخر عند الأستاذ ، إستعماله لمفردات مهجورة من زمان ، لا تفهم إلا بقاموس ، مثل " السيسبان ، الشمعدان ، الرئبال ، السحساح ، الخنذيذ "
او قوله " جامحتكِ ساجحتكِ ، سالمتكِ خادنتكِ "
وهذه تبدو وعرة وصعبة على النطق ؛ إن القارئ يحبذ ما ألفته الأسماع والعقول .
ثلاثة واجهات في هذه الأوراق تدعونا للوقوف امامها قليلا . أولا : قصيدة " جوعان يَمّا " ، يتجلى فيها حنين الشاعر الى الماضي ، وشوقه الى أجواء القرية بكل ما فيها من بساطة وطيبة ، والمقطع التالي من القصيدة هو الأكثر تشويقا ، الشاعر يخاطب أمه " ضعي ما عندنا / من مُونة الزيت / والزيتون والزعتر / ولبنة المِعزى / على الطبق المدور / ناوليني رغيفا / من الطّلامي / والخبز الرقيق المقمر/ من قمح البيدر الضاحك / الأسمر "
ثانيا : تأثير البيئة الجغرافية على الشاعر ، وهذا يتضح بوصفه وانشداده الى الجليل في أكثر من مكان .
" سفوح اللازورد الضاحي / أغاريد شذا الفلاّح / حساسين الجليل وطني / ناسه ضَوعة البِطاحِ "
والواجهة الثالثة : ان الشاعر لا يقف بمعزل عن الأحداث السياسية في المنطقة ، وفي العالم العربي ، يعلن رأيه ، ويسجل موقفه الرافض للظلم والباطل ، كذلك يتناول وبشكل تهكمي وطريف شخصية سياسية ، كقوله عن " بيروقراطي " لم يذكر اسمه " يتقن لعب الشطرنج / وفن المزح / وأساليب الغنج / يحب التملق والخيلاء / وشعبه والأرض والزيتون / ويعاف الفقراء / يحب الموسيقى والعصافير / ويتباهى لا زلت غريرا "
بقيت نقطة واحدة جديرة بالذكر ، وهي ان الشاعر واقعي النزعة ، يأخذ بالحقائق والمسلّمات، ينسجها بأسلوب هو اقرب الى التقرير والمباشرة . ومع ذلك لا تخلو أشعاره من لمحة ذكيّة هنا ، وإشراقة هناك ، وهذا ما يسعف بعضا من هذا الشعر ليظل في حدود المعقول والمقبول .