كنتُ على وشك العفو عن القرطاس , كي لا يقال بأنني اتعرض لكاتبة في بداية مشوارها الأدبي , لكنني توسمّت موهبة مبشرة , وهي الكاتبة تغريد حبيب من دير حنا , بلد الشاعر شفيق حبيب .
انتهت إلينا روايتها من مائة وثمانية وثمانين صفحة , صدرت حديثا وبعنوان " هل الحب خطيئة يا أبي الكاهن " .
ملخص الرواية دراما عاطفية محورها قصة حب عميقة بين فتاة جميلة ( مادلين ) , ومدرس وسيم ( سمير ) . ويشاء القدر أن يفترقا , وأن يتزوج المدرس بفتاة أخرى , فتتعرض مادلين لصدمة عنيفة , وتبدأ ايام عذابها وألمها , وبعد تفكير طويل تصل الى نتيجة أن الرجوع الى الدين عبادة وسلوكا هو الطريق الوحيد للزهد في الدنيا وترك مغرياتها , فتلجأ الى الدير وتصبح راهبة ؛ وهناك تحاول أن تدير ظهرها للماضي , وان تجعله " ينام على وسادة النسيان " كما تقول .
تذكرني هذا الجملة برواية " الوسادة الخالية " لإحسان عبد القدوس , وكيف أن الشابة الضحية تتعذب وتلقم دموعها لوسادتها , وقد خلت الوسادة من غضارة العشق , بعد أن كانت تضج بالأحلام ...
لا شك أن الكاتبة تأثرت بروايات عربية عاطفية , وهذا التأثر يستشعره كل من أبحر في عالم الروايات وطاف فضاءها .
افتتحت تغريد روايتها بوصف دقيق للمكان .. مما يوحي بأن القصة واقعية , أمّا في النهاية فلم أفاجأ بموت البطلة لأن أكثر , إن لم يكن معظم الروايات العربية تنتهي بفاجعة أو جنازة !!
صراحة لم تكن قراءتي للرواية إلا من باب الإكتشاف ونُتفَة فضول ، كونها رواية تصلح أكثر للناشئة والمراهقين : المشاعر المرهفة , لغة العيون , والحب من النظرة الأولى .
هذه الرواية كُتبت بطريقة السرد التقليدي , ومن شروط السرد أن يكون شائقا بالدرجة الأولى , ونسبة التشويق في هذه الرواية مُرضيّة الى حد ما , وكذلك الحبكة لو لم تثقل بحدث أعتبره دخيلا على السياق , كالعلاقة غير الشرعية بين " سناء ويوسف " !
إن القارئ لا يجد عنتاً في اكتشاف رفض الكاتبة لبعض المظاهر والعادات الإجتماعية , مثل زواج البدل , والذي كان السبب المباشر في شقاء مادلين ! ولعل المشهد الأكثر وضوحا لرفضها , حين يخاطب سمير مادلين : " يجب ان اتزوج أنا اخت العريسين , حتى تتم المبادلة بأختي , أتعلمين من أتزوج ؟ . فقاطعته وقد شعرت ان قلبها انشطر الى نصفين : ماذا ؟ ! أيكون الزواج صفقة مقايضة ؟ أتشترى القلوب وتباع ؟ يا إلهي , لا أصدق ... "
هذه الكلمات القليلة المؤثرة هي عُصارة الفصل الخامس من الرواية . حبذا لو أن الكاتبة تنازلت عن شرح زواج المقايضة في الفقرات اللاحقة , فهذا الشرح صيغ بلغة التقرير المحض , والرواية بعامة تفقد رونقها إذا انزلقت الى التقرير وسرد المعلومات . كما حدث في رواية محلية بعنوان " جيلة وعذاب " !
من المعلوم ان الحوار من اهم العناصر التي تتكون منها الرواية , وللحوار – كما مر معنا –مواصفات أهمها التلميح اللطيف والإيحاء الجذاب .
لقد حققت الكاتبة بعضا من هذا , بيد ان بعض الحوار كان فاترا وجافا ! . وإن كان من سبب لهذا الفتور , فالأرجح أن الكاتبة كانت بين حالتين متناقضتين , الأولى حالة تحمس للكتابة , والثانية التأرجح بين التوقف والإنطلاق , ربما خشية الإخفاق , أو لعدم توفر الأجواء الملائمة لحرية الفكر !
ونظرة الى الناحية الفنية في الرواية نطلع بنتيجة أنها كانت بحاجة للمزيد من الصقل والجهد . وفنية الرواية في تصوّري , تلك الشحنة المثيرة والممتدة على طول الرواية , والتي تغريك بالإنجذاب اليها عبر مناخ ماتع وقابل للتفكر والتأمل . ونمثل لذلك برواية أحلام مستغانمي
" ذاكرة الجسد " , أو رواية " الغائب " للدكتورة نوال السعداوي .
وثمّة نقطة ينبغي عدم إغفالها , وهي إحساسنا بحضور الكاتبة طوال النص , وكأنها توجهنا , وتقول لنا : تابعوا هذه الصفحة , ما رأيكم بهذه الشخصية ؟ وما تقديركم لهذا الكلام ؟ .
علما ان الكاتب المتمرس اللّبق يتوارى عن أنظارنا وهو يحرك الأحداث والشخصيات بخيوط غير منظورة , كما في رواية " المصابيح الزرق " لحنا مينا كمثال . يقال أن رواية " الجحر " لكافكا استمدت بعض قوتها من عزلة المؤلف .
أختصرُ مسافة الحديث بالتأكيد أن رواية تغريد حبيب – وبالرغم من ملاحظاتنا – هي تجربة لا بأس بها كبداية , وبداية كهذه تدفعنا للتفاؤل بنتاج آخر قوي وموفق .