"دع المنطق جنباً يا رجل"،هكذا صرخ هيروسترات في وجه رجل المسرح في احدى مشاهد مسرحية "انسوا هيروسترات" للكاتب الروسي غريغوري غورين. هيروسترات هذا أحرق في القرن الرابع قبل الميلاد معبد أرتيميدا في مدينة ايفيس الاغريقية ، والذي استغرق بناءه مائة وخمسين عاماً .
رغم أهمية هذا المعبد وقدسيته بالنسبة لسكان ايفيس ، رغم حقد الناس كافة في تلك الحقبة لحارق المعبد هيروسترات ، إلا أنهم ومع مرور الزمن أصبحوا يغيرون مواقفهم . فتحوّل الحقد لديهم الى إعجاب ، ولعبت النقود دوراً هاماً في هذا التحوّل المفاجىء ، وكادت أن تطول محاكمة هيروسترات الى ما لا نهاية ، لولا مخالفة القانون من قبل رجل القانون ، القاضي كليون ، الذي قام بطعن هيرسترات بالخنجر ، دون إتخاذ قرار رسمي من قبل محكمة ايفيس ، معتقداً بهذا أنه أنقذ القانون والعدل من مكر وديماغوغية هيروسترات .
منذ القرن الرابع ق.م وحتى يومنا هذا ، لا يزال صوت هيروسترات يسخر من الناس ومن قيمهم ، والذين أصبحوا يرددون ما قاله هيروسترات "دع المنطق جانباً يا رجل". وإذا نظرنا حولنا مما يجري وتأملنا ما يحدث لا يسعنا إلا أن نتساءل أين المنطق؟ أين المبادىء والقيم في زمن أصبح فيه التكتيك سلاحاً يستعمله كل سياسي ليبرر انحرافه عن مسلك أو مبادىء سبق وأعلن عن تبنيها في لحظة نشوة أو حاجة ، فالغاية تبرر الوسيلة ، وكل شيء مباح ، وإذا لم تخجل فافعل ما تشاء .فأصبح اللص والمختلس حذقاً والمستقيم غبياً ، الكاذب مبدعاً والصادق ساذجاً ، الظالم حازماً والعادل مهادناً .
العاطلون عن العمل من المثقفين والأكاديميين الذين لم تستوعبهم الدوائر الرسمية أصبحوا من المنسيين ، والكل يلهث محولاً نيل رضى حبات الليمون التي عصرت وقذفت في سلة المهملات. أما هؤلاء الأكاديميون فليعانوا من مرارة البطالة والتجاهل ، وليصابوا بالإحباط فذنبهم الوحيد أنهم لا يجيدون الرقص على أكثر من حبل واحد.
وماذا عن ذلك الكاتب الذي كان يعمل في سلك التعليم ، والذي لم يكن يجرؤ على طرح قضايا شعبه من خلال كتاباته وإبداعاته الأدبية !!! أصبح بين ليلة وضحاها وبقدرة قادر أديباً وطنياً وثورياً بعد أن تجاوز سن التقاعد ، وبعد أن ضمن راتبه والمكافآت المستحقة ، وضمن مستقبله ومستقبل أولاده ، فانتهت فترة الجبن والصمت وبدأت مرحلة الشيخوخة ، مرحلة "النضال الثوري" إذ دبّت في هذا الأديب المسن روح الشباب ، فالآن بإمكانه أن يكتب ما يشاء ودون أن يشكل خطراً على لقمة العيش . أما النقاد والأدباء الأشاوس فكانوا على أهبة الاستعداد للتطبيل والتزمير لهذا الأديب الذي أصبح "ثورياً" ، أما نحن فما علينا إلا السمع والطاعة .