كنت قرأت مطولة الجدارية للشاعر الراحل محمود درويش قبل كذا سنوات واستمتعت بها, وادهشني ما جاء فيها من تضمينات واشارات.
وفي جلسة أخوية مع الدكتور الناقد والباحث الأدبي رياض كامل, والشاعر سيمون عيلوطي حكيت لهما عن علاقتي بالشعر, وكيف انني اقرأ الشعر الجميل وأحفظه بغض النظر عن صاحبه, أكان شاعرًا عظيمًا, او شاعرًا مغمورًا ... ورويت بعض النماذج, ثم ذكرت لهما كيف انني حاولت نظم الشعر وأنا في الصف العاشر, ولكن بعد ان كتبت عدة أبيات رأيت انها متكلفة لا صدق فيها ولا تعبر عما في نفسي, وعما أردت قوله, فأحسست بشيء من الخزي, وأقلعت عن المحاولة.
ثم تشعب بنا الحديث فقال رياض: الكلام الجميل يبقى جميلاً بغض النظر عن استيفائه شروط الشعر التقليدية من وزن وقافية أو عدم استيفائه. وضرب مثلاً على ذلك بشعر طه محمد علي. عندئذ ذكرت بعض الأمثلة من التوراة, والقرأن, والانجيل باعتبارها شعرًا, ونتاجًا أدبيًا رفيعًا.
وانتهى بنا الحديث الى ما جاء في جدارية الشاعر الكبير المرحوم محمود درويش من تضمينات واشارات تكاد تكون منقولة حرفيًا عن سفر "الجامعة" مع بعض الاضافات, منها على سبيل المثال:
للولادة وقت
وللموت وقت
وللصمت وقت
وللنطق وقت
وللحرب وقت
وللصلح وقت
وللوقت وقت
قال سيمون: "وللوقت وقت" هذه من لمعات محمود درويش. قلت لكن الأصل في نظري الأجمل, ولك ان تراجع سفر "الجامعة" لترى فالجامعة يقول:
لكل شيء زمان
ولكل امر تحت السموات وقت
للولادة وقت وللموت وقت
للغرس وقت وللزرع المغروس وقت...
وينهي فيقول:
وللسكوت وقت وللتكلم وقت
وللحب وقت وللبغضة وقت
وللحرب وقت وللصلح وقت
فأي منفعة لمن يتعب ممن يتعب به.
قال سيمون : هل كتبت هذا الكلام؟
قلت لا. قال رياض : اعتقد ان من الضروري ان تكتبه, , ولو من ان ما يسمى بالثقافة.
ولمزيد من التوضيح كنت اقول : جاء في سفر الجامعة : "باطل الاباطيل الكل باطل ".
ويقول درويش :
باطل, باطل الأباطيل... باطل كل شيء على البسيطة زائل
ولا اعرف لماذا اشعر ان عبارة "كل شيء على البسيطة زائل ": متكلفة, ومقحمة...
ولا ضرورة لها, ربما انها جاءت لغرض الشعر .
ثم يقول محمود درويش: الرياح شمالية والرياح جنوبية
تشرق الشمس من ذاتها
تغرب الشمس من ذاتها
لا جديد, اذًا
والزمن
كان أمس ,
سدى في سدى.
اما في سفر الجامعة فيقول :
الشمس تشرق
والشمس تغرب
وتسرع الى موضعها حيث تشرق
الريح تذهب الى الجنوب
وتدور الى الشمال
تذهب دائرة دورانا
والى مداراتها ترجع الريح
ولا اعرف ما هي اهمية اضافة كلمة
"ذاتها" في قول محمود "الشمس تشرق من ذاتها, تغرب الشمس في ذاتها"؟
هل ليكسب قوله خصوصية ما تبعد عن ذهن
القارئ امكانية نسخ نفس المعنى!
ويقول محمود في هذا الجزء من الجدارية:
كل نهر سيشربه البحر
والبحر ليس ملآن
لا شيء يبقى على حاله
كل حي يسير الى الموت
والموت ليس بملآن.
اما "الجامعة " فيقول: كل الانهار تجري الى البحر
والبحر ليس بملآن
الى المكان الذي جرت منه الأنهار
الى هناك تذهب راجعة
كل الكلام يقصر
لا يستطيع الانسان ان يخبر بالكل
العين لا تشبع من النظر
والأذن لا تمتلىء من السمع
ما كان فهو ما يكون
والذي صُنع فهو الذي يُصنع
فليس تحت الشمس جديد.
أليس كلام الجامعة هذا هو "المقلع" الذي أخذ منه درويش بعض حجارته ليرصع بها جداريته.
أليس هذا في حد ذاته ابداعًا لا يقل روعة عن آخر ابداعات درويش، مع انه قيل قبله بآلاف السنين؟
فقول الجامعة: "ما كان فهو ما يكون…
والذي صُنع فهو الذي يُصنع، فليس تحت الشمس جديد" يحمل نفس المعنى الذي قاله محمود في مكان آخر "لا جديد اذًا، والزمن كان أمس، سدى في سدى".
ويقول محمود:
عشت كما لم يعش شاعرٌ
ملكًا وحكيمًا…
هرمت، سئمت من المجد
لا شيء ينقصني
الهذا اذًا
كلما ازداد علمي
تعاظم همي؟!
وهذا يكاد يكون "كوبي" عن الجامعة ابن داود الذي يقول:
انا الجامعة كنت ملكًا على اسرائيل في اورشليم…
انا ناجيت قلبي قائلاً:
"ها أنا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على اورشليم.
وقد رأى قلبي كثيرًا من الحكمة والمعرفة"…
ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل..
فعرفت ان هذا ايضًا قبض الريح لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا؟!!
وبعد هذه مجرّد ملاحظة عابرة جئت بها فقط لأقول: ما رأيكم؟ ألا يدل هذا على صدق ما قاله محمود درويش في احدى المقابلات الصحفية معه. "احب ان اكون حريصًا على مواكبة الأدب العربي الحديث، والأدب العبري الحديث"!! والحقيقة ان المرحم كان واسع الاطلاع على الأدبين العربي والعبري القديمين ايضًا، وعلى الآداب العالمية، ورصّع شعره بكثير من التضمينات والاشارات.
ولأنه مبدع كبير فانه لم يكتف بأن يكون مستهلكًا، بل جعل مما يستهلكه مادة خامًا يستخدمها لانتاج جديد لا يضاهيه فيه أحد، وهناك الكثير مما يقال في هذا المجال، ويحتاج الى مؤلف كامل، مما قد يدفع يومًا أحد عاشقي شعر محمود درويش للقيام بمزيد من الدراسة والبحث للكشف عن لآلىء هذا الشاعر الفذ.