خلال قراءاتي الغزيرة للشعر كأحد الفنون الجميلة مررتُ بالدواوين السابقة للشاعر كمال ابراهيم ، ويمكن تلخيصها بايجاز مكثف للغاية ، فقد كان هذا الشاعر المتحمس للشعر يبذر القليل من كلماته في أرض ليست مهيأة للإنتاج ! وما تبقى كان يودعها مناخا طيبا للنمو . فكانت النتيجة أن اسطورة الرماد لم تسعف بعض البذور ، فلاذت بالصمت والسكون ، وأخرى انطلقت الى ما بعد السكون سنابل لفحتها الشمس .
وعن هذه الأخيرة سبق منذ سنوات خمس ان عطفتُ عليها بجرة قلم في الصحافة المحلية .
واليوم يعود الينا كمال ابراهيم بديوانه الجديد " اوركسترا السكون " ، غلاف أنيق وطباعة جيدة ، اصدار " الحقيقة " كفر ياسيف .
ما حفزني للكتابة مجددا عن الشاعر ، أن ديوانه الجديد هو ديوان متطور نوعا ما مقارنة باعماله السابقة . والتطور الرئيس ليس بالمعاني المبعثرة بين الصفحات ، فالمعاني قائمة وثابتة منذ القدم ، وهي " ملقاة في الطريق " حسب نظرية الجاحظ . إنما يكمن التطور في الألفاظ التي تغلف المعاني ، بحيث تبدو منحرفة عن الشائع والمألوف كقوله " يا نجمة الصبح تلألئي نيزكا / وابعثي نورا يصير حروفا " .
وبالمقابل نجد الكثير من الألفاظ لم تمس المعاني بالعمق ، بل تحوم حولها كفراشة القنديل ! تحترق أو لا تحترق هي وحظها !
ان القسم الأكبر من الديوان يدور حول الحب والغزل ، ويكمن مبدؤها الداخلي بالعاطفة الحارة . والملاحظ في هذا السياق أن الشاعر يندفع بكل عنفوان خلف جمال المرأة . لذلك لا أستبعد أن يعتقد القارئ أن نشاطا كهذا هو هدر للفكر والمشاعر ! .
وفي هذا الصدد يحضرني بيت الشعر القديم " ليس الجمال بمئزر ـــ فاعلم ، وإن رُوديتَ بُردا " .
اعتقدُ أن الملمح الأجمل في نطاق العاطفة هو المقطع الأول من القصيدة الأولى " ذكرتك يوم التقينا / وسط الطريق / صبية تضوع سحرها / في حينا العتيق " .
عفوي ورائع هذا التعبير . بيد أن باقي أجزاء القصيدة ، فيخيّل الي أن الشاعر ــ ولسبب ما ــ لم يكن منسجما معها انسجاما كافيا ! وهنا أفترض معادلة : شاعر لا ينسجم / يتفاعل مع نصه ، يصبح المتلقي عرضة للضجر !
في مجال التشبيه والذي يعتبر من أشكال البديع ، فقد وفق الشاعر ببعض تشبيهاته ، أي أنه أوضح مقصده وأصاب في التشبيه ، وبكلمات أظنها غير مطروقة . كقوله " والحب ارجوحة الصبح المسالم "
لكنه أخفق إذ اتجه الى تشبيهات أنهكها الشعراء استخداما وتعميما ،
كقوله " رأيتكِ بدرا " أو " تذكرْ شوق الحبيب / شوق الصحاري للمطر "
القصيدة بعنوان " خاطرة أو قصيدة " تشكل نموذجا في الموعظة والإرشاد والقيم ، الشاعر يدعو الإنسان للخشوع لله ، والسير على درب الهدى ، الى أن يقول " كن ملاكا " .
لكن في القصيدة التي تليها مباشرة " دمشقية " تحدث المفارقة ، نفاجأ بالتناقض الصارخ والتقلب في المزاج والأفكار ، فهي قصيدة تفيض اشتهاء للمرأة جسدا وليس كيانا !
لا أتهم الشاعر بنزعة التقلب ، بل أعزو ذلك الى ميول النفس البشرية أولا ، وثانيا ، الى تأثير البيئة الاجتماعية التي لا تثبت على حال .
وإذا شئنا الموقف السياسي والوطني للشاعر ، فهذا يتضح في قصيدته " الربيع العربي " ، تعبر بصدق عن اعتزاز الشاعر بعروبته ، وبما انجزته الشعوب الثائرة في هذه الأحداث التاريخية الحاسمة .
قصيدة " ومضة فكر " هي في الواقع ليست مسبوقة ، لكنها جيدة في مستوى النظر الى قدرات الانسان المحدودة في حلمه المتوثب الى غزو النجوم .
لا شك أن الصديق كمال ابراهيم هو اليوم من الشعراء الذين يشار اليهم بالإيجاب ، وكان بإمكانه ، وبما يملك من موهبة وطموح ، ان يحقق المزيد من التقدم والتطور في ديوانه هذا ، لكنه على ما يبدو انشغل بما يسمّى اللعبة التنميقية التي تغري العديد من الشعراء فيتعلقون بها وكأنها الغاية المنشودة ! والنتيجة يطول شرحها في هذا المقام .
ومع ذلك فان هذه اللعبة لا تذهب بددا في الشعر ، فهي تستميل الكثير من الأذواق يحتفلون بها كحلة خارجية للكلام .
من المداخلة التي قدمت في ندوة أدبية في المغار .