لي صديق عرفته منذ أوائل الثمانينات ، وكان طالب ثانوي في الثاني عشر ،وكنت قد تركت المدرسة دون اي استفادة من الصف التاسع إعدادي .. وبدأت مسيرتي المعرفية بعد تركي المدرسة بعامين فقط ، حيث كان الدافع كامنا أخذ يترحرح بصورة خيال وتطلع وجداني ديني في سن مبكرة نحو حقائق هذا الوجود الذي نعيش فيه .. تلك الحقائق او المسائل التي فُهِمت وصُنِفت وحُصِرَت وقولِبَت في عقول الناس عامة ،وفي أفهام المثقفين والمتعلمين خاصة " كفلسفة " بعد ان ُفهِمت هذه وحُصِرت وقُولِبَت كترف وخيال وفضول ، وربما ككذب واحتيال ومجرد هروب من الواقع ايضًا ،بدل ان تكون محبة الحكمة ومحبة الحقيقة .. اما الصديق الذي اصبح دُكتر في الطب بعد ذلك ..هو مشيل حنا الذي تثقف وتعلم في إطار الانتماء الثقافي والسياسي للحزب الشيوعي ،الذي كان فيه ناشطا دعائيا فكريا واجتماعيا كواحد من الشبيبة الميدانيين المتحمسين للمادية الديالكتيكية في قريتنا الرامة.. اما انا فكنت على طرف نقيض فكريا ،ولا أزال عرفانيا جدليا تجاوزيا ،حيث كنت أصَنَّف في النظر الفلسفي الشيوعي "كمثالي وهيغلي " الخ .. وكم دارت بيني وبين صديقي اللدود وآخرين من شبيبة الحزب آنذاك من نقاشات وجدالات حادة طغى ضجيجها على جوهرها .. وحدثت المفاجأة بعد افتراق الصديق بضع سنوات خرج خلالها للاتحاد السوفييتي يدرس الطب هناك .. المفاجأة : عودة صديقي وهو مُحبَط تماما مما رآه في بلاد البرد والصقيع .. ودار النقاش بيننا هادئا متأنيا - فقد كبرنا – وكان مصغيا متعقبا بخلاف ذلك المتحمس المجادل (الأصم).. وما التقينا بعد ذلك ثانية على نفس الحديث بمتابعة هادئة وانا ادلي له بالحجة تلو الاخرى عرفانيا حول حقائق الوجود الاساسية ، حتى قبل الفكرة العرفانية وتفاعل معها ونحن الى هذه الساعة في تواصل ولقاءات حول الموضوع .. لقد فتح عقله وشرح صدره وتواضع وتجرد واصبح عرفانيا مُحقِقا بكل ما للكلمة من معنى ، ملقيا وراء ظهره كل ما أدخَل (مُكاسروا ) الحزب من قناعات الى رأسه .. ومنذ بدأتُ نشر مقالاتي العرفانية على صفحات الجرائد ثم على المواقع الالكترونية وصديقي متابع باهتمام ، وما انشره قليل ضئيل الى جانب حواراتنا وتحقيقاتنا المشتركة .. وفي الواقع يشترك من حين لآخر ، اصدقاء - عرب ويهود ومن كل الطوائف - في حلقات صغيرة حول الموضوع العرفاني التجاوزي ،اكثرهم خريجو جامعات وكليات ،رغم حاجة العرفان الى قلب ووجدان أكثر من رأس وأفكار .. اما ما يخدم عنوان هذا الحديث هنا ناتج عن التكرار الدائم للسؤال من قبل صديقي : لماذا لا يحظى الطرح العرفاني الذي انشره وأتحدث به هنا وهناك بالاهتمام الكافي ، بل بالحد الادنى من قبل الناس عموما ومن قبل المثقفين خصوصًا ؟! ولماذا ُتقدَّم ربما مختلف الطروحات الثقافية والكتابية على الطرح العرفاني التجاوزي في محافل النشر وفي المنتديات الثقافية ،وهي وعلاجاتها من قبيل العَرَض والعَرَضية مقارنة بالبحث العرفاني الذي يتناول جوهر الوجود وهو يتعلق بأقدس وأعمق ما في الانسان ..؟! في الحقيقة هناك اكثر من عذر للناس كما ارى ،من ذلك أولا هموم العيش والقضايا الحياتية والسياسية الساخنة. ثانيا عدم امتلاك الناس معرفة أولية أساسية حقيقية للموضوع العرفاني بمفهومه الترنسندنتالي التجاوزي .. ثالثا عجزنا نحن عن تقديم ما يمثل التحريك الوجداني والعقلاني بالقدر الذي يمكن معه إثارة الاهتمام في الموضوع ، الا بالنسبة لقلة قليلة هنا وهناك . ثم ان الناس بحكم العادة لا تستطيع استيعاب شيء الا من مرجع "رسمي" أكاديمي ، نموذجي ، من شيخ ، من إطار معين له مظهره وزينته . بينما العرفانية التجاوزية – وهي لذلك تجاوزية – لا يمكن ان تولد وتتفتح وتثمر داخل اي نوع واي مستوى من القوالب المعروفة ومن أشكال المفاهيم المُسبقة .. رابعا ان عدم اهتمام العموم – بما في ذلك اصحاب الاقلام – بالموضوع يدخل ويندرج ضمن الوضع السلبي المأزوم السائد في المجال الثقافي بالنسبة لجميع اوجه النشاط الثقافي في المجتمع العربي، بغض النظر عن الظروف، كما هو معروف ومكرر من قبل بعض الغيورين والقلقين على هذا الوضع .. لكن يبقى ان أقول ان الموضوع العرفاني – كما اشرت سالفا – ليس مجرد ادب او فكر ، بل يتخطى في الاهمية كل اهتمام لمن (يعرف) حيث يتناول علاج المعرفة بالوجود كطرح تجريبي داخلي وخارجي محقق ،يتخطى الفكر ، وان دخل في فن الكتابة واللغة من حيث التعبير ، فلا توجد طريقة اخرى لنقل التجربة عن بُعد الا الكتابة .. مع التأكيد على ان الحوار المباشر اشد تأثيرا وتوضيحا ، وافضل من ذينك هو التجربة نفسها التي لا يمكن نقلها للآخرين – الا مجازا - حتى باستعمال بعض التقنيات (كالميتدتسيا) التأملية الصامتة ، وتظل افضل مساعد.. ان علاقة الموضوع بالعنوان أعلاه كما بدأت الاشارة الي ذلك ،هو ما قاله احد حكماء العرفان الكبار : ليس بمقدور بائع الخضار ولا من مهامه تقييم الجواهر واللاليء الا بما اكتسبه من معرفة سوقية .. وربما يقدِّر الجواهر بأثمان البطاطا والباذنجان .. هكذا يحدث للأسف مع الفكر العرفاني التجاوزي المطروح في السوق الثقافي، المنتشر في الصحف وفي الانترنت ،مع كامل الاحترام ،وهذا الامر ليس في مناطقنا العربية فقط ، بل في سائر العالم ايضا ،لكن بدرجة اقل بكثير مما لدينا ، حيث لا نزال نفتقد للانفتاح المطلوب على الفكر الآ خر .. وهناك أشخاص من الشرق استناروا وانتشروا في الغرب المتقبل لكل الثقافات ،اكثر من بلادهم نفسها، مُفوِّقين ما يستحق موضوعيا في الاهمية على غيره من فكر . في حين نحن هنا لا نزال نضع انشغالات المجالس المحلية مثلا والانتخابات ،وبعض الهموم المتعلقة بالعادات والتقاليد فوق كل اعتبار .. ان المظاهر والشكليات والسطحيات تطغى على اهتماماتنا في كل شيء تقريبا الى حد يعتبر الكثيرون منا البحث العرفاني والفلسفي عموما مجرد تسلية وتضييع للوقت ، او تطبيش رأس في غير مكانه ،أو على حساب ما هو أهم واخطر ، بينما نحن في عالم يجب " ان نعرف فيه الثمرة قبل غرس الشجرة " .. لازلنا ازاء هذا الطرح في الواقع نعيش في تحجراتنا العقائدية وفي تخلفنا الروحي والثقافي والفكري .