عدم الوثوق بما يرد من طرح عرفاني تجاوزي عادة نابع لدى البعض ، وربما الاغلب ،من الايمان والتسليم باعتبارات ومسلمات مسبقة حول الصفة التي يجب ان يتمتع بها العرفاني ،دون ان تكون لهم معرفة حقيقية اساسية في الموضوع .. لقد تم الخلط لدى الكثيرين بين العرفان بمفهومه الموضوعي والكوني التجاوزي ،وبين العرفان ممزوجا بمعتقدات هذا المذهب الديني او ذاك . هذا المزج الذي نتج وينتج عنه اساطير مفيدة اخلاقيا معظم الاحيان ، لكنها عائق كبير امام التحقق بحقائق الوجود ، دون ان يعني ذلك تعارضا اخلاقيا حتميا والطرح العرفاني التجاوزي في ذاته .. ودائما الاشكالية هي اشكالية وعي ، والمواجهة الحقيقية لأي موضوع هي مواجهة للوعي .. او هي مواجهة لعلاقة الموضوع بالوعي .. سواء كان الموضوع معتقد ديني ،او قيم اخلاقية او بحث فكري او علمي .. الخ
الاشكال في عدم قبول الطرح العرفاني الذي أقدمه ،أو الشك فيه من قبل البعض يعود الى إشكال في العقل الاجتماعي الموروث والمتوارث والسائد ، دون بذل مجهود كاف لفحص ودرس وتفكيك للمسلمات والمذوتات الاعتقادية .. الاشكالية هي في عقل تراكمي تقليدي سطحي ماضوي ،لا يَفهم ولا يستوعب ولا يقبل أي شيء إلا من نموذج تقليدي ،كما نوهت وانوه دائما لذلك .. فالذي يَعرف في الدين ويُعتبر ثقة لا بد ان يكون رجل يضع عمامة على راسه ،ولا بد ان يتفق ، بل يتطابق مع من سبقه من شيوخ " ثقات ، أعلام " هم يقبعون في اللاوعي الجمعي بصورة من الصور المقدسة التي لا يجوز مناقشتها فضلا عن الشك فيها ، او الشك في المتروك منها والمأثور عنها – هذه هي النموذجية الوهمية المسيطرة على العقول والمانعة لها من التحرر والتطور والانفتاح على التجربة المحض روحية وعيية ذاتية موضوعية تجاوزية .. كذلك الامر نفسه – في مقاربة الاشكالية -ينسحب على الرجل الذي يمثل فن الرسم والنحت مثلا ، واحيانا الاديب والشاعر . فالقبعة والغليون (والسكسوكة ) هي النموذج القابع في الوعي العام .. هو الاطار الذي يطل منه الفنان على الناس - رغم الاستثناءات - كذلك قد يتخذ نموذج البذلة وربطة العنق صفة رسمية لمن يُعتبر مثقف او متعلم او موسر .. أو العباءة – الزعامة - ..طبعا هناك الكثيرين من هؤلاء هم كذلك دون شك . لكن كم من الناس ايضا زائفون يختبئون في مظاهرهم والوانهم واشكالهم واقنعتهم ..؟! لقد الفت كتابا بعنوان " وهم النموذجية الاعتقادية في ضوء التحقق العرفاني " الموضوع سنة 2000 والمطبوع 2006 .. اردت به الكشف عن خرافة ووهمية النموذج المثالي الشعبي اذا صح – سواء الديني الميتافيزيقي المجرد ،او الاجتماعي المشخص والمحسوس – فالناس لكي تصدق تريد مثالا للفكرة التي تدعو اليها او تطرحها ( بعدم تحيز ) .. ولهذا السبب كانوا يطلبون من صاحب الرسالة الدينية معجزة او عمل خارق للعادة كي يطمئنوا الى صدق دعوته .. وهذا الطلب نابع عند التحقيق من عقلية سحرية بدائية لا يستطيع اصحابها فهم المطروح خارج العلاقات الحسية الملموسة الكثيفة ،رغم ان كل ذرة في الوجود عبارة عن معجزة ، تفوق العمل الخارق المطلوب من "الوسيط " الروحي غرابة ودهشة بكثير .. حيث من معايير وسمات التطور والتقدم العقلي التحول بالفهم من مستوى المحسوس المباشر الى المجرد والمركب من الوعي ، ثم الى البسيط الروحي غير القابل للتفكيك في ذاته . فكلما ارتقى التفكير جدليا وتحققيا من المظهري المحسوس للمجرد الخفي اكثر ،كان كاشفا لحقائق الوجود الكلي وبالتالي حرا سعيدا اكثر .. فرسالتي العرفانية هي قطعا لهذه الفئة التطورية التقدمية ، ربما غير المتوفرة الا كقلة قليلة جدا ما العمل ..؟ وافضِّل البقاء مع القلة الطامحة في هذا المجال إخلاصا للمعرفة وللحقيقة ، من ان اربح الكثرة اللامبالية .. اقول هذا دون قصد احتقار او استهتار لاسمح الله ، اذ ربما المستوى الذي يقرره الموقف الذي يتخذه المرء ازاء حقائق العالم ليس اختياريا . والمولودون ضعيفي البصر لن تمنحهم المناظر الجميلة زيادة في قوة الابصار .. ومن هنا اتحدث عن الموضوع مباشرة بلا لف ودوران وبلا زخاريف كلامية لا تسمن ولا تغني من جوع ، وبلا ترغيب و ترهيب آخرويين .. ومثلما لا تحتاج النحلة لدعوة خاصة من قبل الزهرة لتأخذ رحيقها - كما قال احدهم - كذلك الطالب المريد الحقيقي بالنسبة للحقيقة ، وهي ساطعة في كل شيء وبكل شيء .
ما هو مصدر التمسك بالنموذج الديني ،او الاجتماعي والفني ..؟ عوامل مختلفة تدخل في ذلك ،منها النظر الغيبوي المرتكز على مزيج تصورات روحية عاطفية وغرائزية ..ومنها الحرفية في الفهم والتصور ، ومنها التقليد واحترام وتقديس ومعصومية التراث الديني والثقافي بأشخاصه وأفكاره .. وهنا تبرز الحاجة للتمييز بين طالب التدين - بأي دين كان سماوي او ارضي ، ديني او علماني - وبين طالب حقيقة الوجود .. سواء من حيث المفهوم ،ومن حيث المنهج والمسلك في الطلب ..وطبعا الجميع ربما دون استثناء يعتبرون انفسهم طلاب للحقيقة ..هذا بصفته واطاره الديني ، وذاك كمثقف ،وكصحفي ،و كباحث في المختبر الكيماوي، وكرائد فضاء، وكعالم في الفيزياء النووية ، وكبيلوجي باحث في فك وتشكيل شيفرة الدي ان اي .. وكفيلسوف عقلي ،وكفقيه متبحر بالتفسير والتأويل للكتب الدينية وو الخ ..لكن اخواني الحقيقة لا تُطلب ولا تُحصّل باي صفة من هذه الصفات ولا بسواها ..حيث كل صفة نطلب الحقيقة بها تدخل فيها ، تحجبها ، تشوهها ،تفصمها لمُدرِك ومُدرَك ، لذات وموضوع ، بينما الحقيقة هي مطلقة فينا وفيما يتعدانا ،هي فوق الذاتي والموضوعي ، حيث لا ضد لها ولا ند ..ومعرفتها تقتضي التخلي ، ليس فقط عن المعلومات والافكار التي في ذاكرتنا وحسب ، بل ايضا التخلي عن الذاكرة الزمنية نفسها بما تحويه من تجارب ومعلومات وصفات .انه انفجار في المخ بلحظة ما إبان التسلق على جدار الوعي يفرغه من كل شيء ليكتشف انه استيقظ من حلم .. ومن لم يكن على استعداد لتجاوز الاطار الامني الطبيعي والسيكلوجي على السواء ، لا يستطيع ان يكون طالب للحقيقة .هذا رغم وجود " مجانين " يقامرون بحياتهم من خلال القيام بشعوذات استعراضية (ايغوئستيت) .. غير ان جنون هؤلاء رخيص تافه بالقياس الى جنون العارفين .وان تسأل عن قيمة وجدوى كل ذلك في النهاية ، فالقيمة في المعرفة والتحقق يقينا بانك ليس ابن اموات ،وفي انك جوهر ذا طبيعة غير مقيدة في ذاتها بشيء ،في هذه الدنيا وفي سواها .