حقيقة أثار اهتمامي الديوان الموسوم " صبرا جميلا " للشاعر الكاتب ابراهيم مالك ، ولا يقتصر اهتمامي على طريقته الجميلة في اختيار الألفاظ مفردة ومركبة فحسب ، إنّما لكون هذا الشاعر لا ينظر الى الأشياء بالباصرة ، قدر ما يراها بفكره وأحاسيسه ، يتأملها التأمل المتأني العميق ، ثم يرخي العنان لقلمه حرا رشيقا ليخط أول ورقة تحتضن " الصّبار " ، هذا النبات المتجذر رمز الحياة المتجددة الولادة .
" أشغلتُ عقلي كثيرا ، كعادتي / حينها رأيتُ ان لوح الصبار / دائم الخضرة كالحياة / ورحت أردد مؤكدا : " الصبر مفتاح الفرج والصبر طيب " .
في الجملة الأخيرة شكل من أشكال البديع ( الجناس ) ، تشابه الكلمتين في اللفظ كله ، الصبر بمفهومه المجرد ، والصبر ، اي الصّبار طيب المذاق .
بديهي أن الشاعر باختياره للصبار قصد أبعد مما هو ظاهر ، وباستطاعتنا استشفاف وجودا آخر للمعنى من جهة دلالة الألفاظ .
وان كان لنا ان نستخلص صفة من صفات الشاعر في هذا النموذج ، فهي حبه العميق للحياة ، وايمانه القوي بالمستقبل .
ننتقل الى العنوان التالي وما بعده ( ثلاث نصوص شعرية من وحي عمل نحتي ــ صخري ــ للفنان التشكيلي احمد كنعان )
يصور الشاعر الفن بالفن ، فن النحت بفن الشعر ، والحجر هو المادة الرئيسة في هذه النصوص ، الشاعر يولى الحجر اهتماما بالغا ، حتى لو لم تكن هناك منحوتة . يريد ان يقول لنا ، هذا الحجر الرمز الصلب الجميل هو ما يبقى اخيرا .
وهذه الرؤية ذات التجربة الذاتية تتقاطع الى حد ما مع الرواية الشهيرة " اللاز " للكاتب الجزائري الطاهر وطار ، يتحدث فيها عن الاستعمار الفرنسي للجزائر .
ترتكز كل الرواية على جملتها الأخيرة " ما يبقى في الوادي غير حجاره " . والحجر عند مالك ليس فقط بهيئته كمنحوتة ، بل بابعاده النفسية والتراثية والمعنوية .
" الله ما اروعك ! / يا حجر الجليل / يا أفق مغارة حلمي / يا عماد خِبائي المنشود / تفيض روعة وتشكلا موحيا / حين تحاورك أصابع صديقي أحمد / وتهزك حتى تصير كمشة طين " .
من خلال هذا المقطع تتضح لنا مهارة احمد كنعان بفن النحت ، الأقوى والأشمخ في مادة هي غير الورق والقماش والأصباغ .
في النص الثاني " يا بعض حلمي " يحاول الشاعر النفاذ الى عمق المنحوته ، كذلك يوظف أسطورة الفينيق توظيفا جيدا " أتأملك في قيلولتي السارحة الحالمة / فأحسبني استحلت ذاك الطائر صخري الجناح / المنتفض على ما حوله من رماد " .
في النص الثالث يصل الشاعر الى ذروة الصورة الشعرية ، يندمج حسا وخيالا مع المنحوته التي تمثل جملا ، المخلوق الذي يرمز الى التحمل والصبر والأسفار ، يصبح ــ بفضل الشعر ــ متحركا نشطا مجنحا وكأنه يحلق ، تدب الحياة في الجماد . والجمل المنحوته في النتيجة هو حلم العودة ، والأمل الذي لا يخبو .
وينتهي الشاعر من المنحوته الى موضوعات أخر تتعلق بالفن أيضا ، فيعرّج شعرا على صورة فوتوغرافية لسحماتا المهجرة ، التقطها الشاعر أسامة ملحم . يبدو انها لقطة موفقة ، وإلا ما كان ابراهيم مالك ليحتفي بها ، وهو الذواقه في ميدان الفنون الجميلة .
وإن كان الفن قد حظي بحصة وافرة عند مالك ، فإن عشقه للمكان يشكل تاريخا وجودا وانتماء . ولا يخفى ان الأمكنة كانت ملهمة الشعراء منذ الجاهلية ، يقفون على الأطلال ويبدعون . كقول امرئ القيس " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... الخ "
ابراهيم مالك يقف على أطلال ( قيسارية ) بقصيدة مؤثرة ، ثم يجْتَس دروب يافا ، ويغمّه ما أصابها من جور وتمزق في نكبة فلسطين وما بعدها ، حتى يكاد يذرف الدمع ، لكنه في غمرة حزنه وأسفه يأنف أن ترضخ هذه المدينة الساحرة لواقعها المرير ، فيضفي عليها جوا من الشموخ والكبرياء " انتصبت فوق الغيم ، في تساميها على الجرح " .
ولقرية مجدل شمس المحتلة منزلة كبيرة في وجدان الشاعر ، مما يذكرنا بالمتنبي
" لك يا منازل في القلوب منازل " .
فُتن مالك بهذه القرية ذات الطبيعة الخلابة ، بناسها ، قممها ، وديانها " مجدل شمس / يا وليدة هذا التلاقح الفاتن الجميل بين أم ووليدها / بين الطبيعة وإنسانها / حقيقة / يفتنني عشب الوديان لحظة أروح أتأمله / وقد انحنى يمارس صلوات عشقه في العشيات البُكور " .
رائعة هذه اللمسات ؛ والأروع ان إبراهيم مالك في ديوانه هذا استطاع أن يزيدنا ثقة بأن الشعر هو من الفنون اللازمة في مسار حضارتنا الإنسانية الراقية .