التأمل ، الحجر ، والمكان ، في شعر ابراهيم مالك

بقلم : الناقد نور عامر ,
تاريخ النشر 19/10/2012 - 06:19:09 pm

حقيقة أثار اهتمامي الديوان الموسوم " صبرا جميلا " للشاعر الكاتب ابراهيم مالك ، ولا يقتصر اهتمامي على طريقته الجميلة في اختيار الألفاظ مفردة ومركبة فحسب ، إنّما لكون هذا الشاعر لا ينظر الى الأشياء بالباصرة ، قدر ما يراها بفكره وأحاسيسه ، يتأملها التأمل المتأني العميق ، ثم يرخي العنان لقلمه حرا رشيقا ليخط أول ورقة تحتضن " الصّبار " ، هذا النبات المتجذر رمز الحياة المتجددة الولادة .
 " أشغلتُ عقلي كثيرا ، كعادتي / حينها رأيتُ ان لوح الصبار / دائم الخضرة كالحياة / ورحت أردد مؤكدا   : " الصبر مفتاح الفرج والصبر طيب " .
في الجملة الأخيرة شكل من أشكال البديع ( الجناس ) ، تشابه الكلمتين في اللفظ كله ، الصبر بمفهومه المجرد ، والصبر ، اي الصّبار طيب المذاق . 
 بديهي أن الشاعر باختياره للصبار قصد أبعد مما هو ظاهر ، وباستطاعتنا استشفاف وجودا آخر للمعنى من جهة دلالة الألفاظ .
وان كان لنا ان نستخلص صفة من صفات الشاعر في هذا النموذج ، فهي حبه العميق للحياة ، وايمانه القوي بالمستقبل .
ننتقل الى العنوان التالي وما بعده ( ثلاث نصوص شعرية من وحي عمل نحتي ــ صخري ــ للفنان التشكيلي احمد كنعان )
يصور الشاعر الفن بالفن ، فن النحت بفن الشعر ، والحجر هو المادة الرئيسة في هذه النصوص ، الشاعر يولى الحجر اهتماما بالغا ، حتى لو لم تكن هناك  منحوتة . يريد ان يقول لنا ، هذا الحجر الرمز الصلب الجميل هو ما يبقى اخيرا .
وهذه الرؤية ذات التجربة الذاتية تتقاطع الى حد ما مع الرواية الشهيرة " اللاز " للكاتب الجزائري الطاهر وطار ، يتحدث فيها عن الاستعمار الفرنسي للجزائر .
ترتكز كل الرواية على جملتها الأخيرة " ما يبقى في الوادي غير حجاره " . والحجر عند مالك ليس فقط بهيئته كمنحوتة ، بل بابعاده النفسية والتراثية والمعنوية .
" الله ما اروعك ! / يا حجر الجليل / يا أفق مغارة حلمي / يا عماد خِبائي المنشود / تفيض روعة وتشكلا موحيا / حين تحاورك أصابع صديقي أحمد / وتهزك حتى تصير كمشة طين " .                                                                        
من خلال هذا المقطع تتضح لنا مهارة احمد كنعان بفن النحت ، الأقوى والأشمخ في مادة هي غير الورق والقماش والأصباغ .
في النص الثاني " يا بعض حلمي " يحاول الشاعر النفاذ الى عمق المنحوته ، كذلك يوظف أسطورة الفينيق توظيفا جيدا " أتأملك في قيلولتي السارحة الحالمة / فأحسبني استحلت ذاك الطائر صخري الجناح / المنتفض على ما حوله من رماد " .
في النص الثالث يصل الشاعر الى ذروة الصورة الشعرية ، يندمج حسا وخيالا مع المنحوته التي تمثل جملا ، المخلوق الذي يرمز الى التحمل والصبر والأسفار ، يصبح ــ بفضل الشعر ــ متحركا نشطا مجنحا وكأنه يحلق ، تدب الحياة في الجماد . والجمل المنحوته في النتيجة هو حلم العودة ، والأمل الذي لا يخبو .
وينتهي الشاعر من المنحوته الى موضوعات أخر تتعلق بالفن أيضا ، فيعرّج شعرا على صورة فوتوغرافية لسحماتا المهجرة ، التقطها الشاعر أسامة ملحم . يبدو انها لقطة موفقة ، وإلا ما كان ابراهيم مالك ليحتفي بها ، وهو الذواقه في ميدان الفنون الجميلة .
وإن كان الفن قد حظي بحصة وافرة عند مالك ، فإن عشقه للمكان يشكل تاريخا وجودا وانتماء . ولا يخفى ان الأمكنة كانت ملهمة الشعراء منذ الجاهلية ، يقفون على الأطلال ويبدعون . كقول امرئ القيس " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... الخ "
ابراهيم مالك يقف على أطلال ( قيسارية ) بقصيدة مؤثرة ، ثم يجْتَس دروب يافا ، ويغمّه ما أصابها من جور وتمزق في نكبة فلسطين وما بعدها ، حتى يكاد يذرف الدمع ، لكنه في غمرة حزنه وأسفه يأنف أن ترضخ هذه المدينة الساحرة لواقعها المرير ، فيضفي عليها جوا من الشموخ والكبرياء " انتصبت فوق الغيم ، في تساميها على الجرح " .
ولقرية مجدل شمس المحتلة منزلة كبيرة في وجدان الشاعر ، مما يذكرنا بالمتنبي
" لك يا منازل في القلوب منازل " .
فُتن مالك بهذه القرية ذات الطبيعة الخلابة ، بناسها ، قممها ، وديانها " مجدل شمس / يا وليدة هذا التلاقح الفاتن الجميل بين أم ووليدها / بين الطبيعة وإنسانها / حقيقة / يفتنني عشب الوديان لحظة أروح أتأمله / وقد انحنى يمارس صلوات عشقه في العشيات البُكور " .
رائعة هذه اللمسات ؛ والأروع ان إبراهيم مالك في ديوانه هذا استطاع أن يزيدنا ثقة بأن الشعر هو من الفنون اللازمة في مسار حضارتنا الإنسانية الراقية .

تعليقك على الموضوع
هام جدا ادارة موقع سبيل تحتفظ لنفسها الحق لالغاء التعليق او حذف بعض الكلمات منه في حال كانت المشاركة غير اخلاقية ولا تتماشى مع شروط الاستعمال. نرجو منكم الحفاظ على مستوى مشاركة رفيع.
1.الشاعر زكريا ابراهيم العمرياحسنت وين هالغيبة20/10/2012 - 10:00:41 am

استفتاء سبيل

ماهو رأيك في تصميم موقع سبيل ألجديد؟
  • ممتاز
  • جيد
  • لا بأس به
  • متوسط
مجموع المصوتين : 2387
//echo 111; ?>