أغوص في غوّاصة الأفكار العملاقة هذه، وأشاهد كلّ ما تُخفيه أرض السَّفينة. تتجمّع الأفكار في محيطات الأمل والحزن والاشتياق، تتجمّع كومة الأفكار هذه وتظهر وكأنّها كومة من طحالب بحار الخيال، كم أحببت هذا المظهر الّذي كان دومًا يُشجّعني لأقوم برحلة لأراه مرارًا ... من دون أن أملّ منهُ ...
وعندما تنتهي رحلتي ... تُعيدُني غوّاصتي إلى السّطح لأطفو كطائرٍ يبحث عن غذائه، فوق لوحة مزجتها الطّبيعة لتعكس جمال ريشه الأبيض النّاعم ... كم أحببتُ أن أرى وجهها الأبيض المُشعّ وعينيها اللّتين كانت تغرق بهما سفن القراصنة ... كم كانت تُغازل خصل شعرها الأشقر أشعّة الشّمس، مع أنّها كانت دائمًا تُخفي تلك الغيرة بين لهيب دورانها ... كم أحببت أن أحتضنها وألامس أنامل يديها النّاعمة ... وعند كلّ لمسة أحسّ وكأنّي بلّورة من ثلج الشّتاء ... أحب أن أصفها وأكتب عنها وألوّنها وأغزل لها كلمات كالوِشاح الدّافئ في ليلة قارصة كليلة البارحة .. الّتي أذكر منها لحظات بسيطة ... أذكر أنّ أناملي أخذت تهتزّ، وحبر عينيّ الأزرق أخذ بالهُطول ... ونغمات المحبّة توقّفت عن إطرابِي ... وغوّاصتي أذكر أنّها قد تدمّرت بعد أن اصطدمت بسفينة قرصان ماكِرٍ، استطاع أن يفرّ هاربًا من عينيها ... ولم يغرق ككلّ مرّة مع أنّ البحر بحث طويلًا ولكنّه لم يجدها ... واخذت ترسب غوّاصة أفكاري حتّى وصلت إلى قعر أرض السّفينة ... فسمعتُ صوتًا صاخِبًا، سمعته عندما فتحت صندوق جدّي المُسنّ الّذي احتضنه الغُبار حتّى أحكم ذراعيه من حوله ...
وبعدها بقليل أخذت غوّاصتي ترسب أكثر وأكثر وتوقّفت فجأة وعاد ذلك الصّوت مُجدَّدًا وأعادني إلى مكان بعيد عن هُنا، فأخذت رمال أرض غوّاصتي تمزج لي مُخيّلة خياليَّة لم أصدّق أنّني سأحظى بها يومًا ما ... حتّى تراءى لي المكان مُظلمًا حالِكًا، مُخيفًا ... وأخذت دقّات قلبي تزداد بسرعة وأنفاسي تقلّ تدريجيًّا ... شعرت وكأنّ الوقت حان لتخرج أنفاسي وتصعد من بين ظُلوعِي، روحًا مُتْعَبَةً ... أنهَكَتْها كلمات وأحزان هذا الزّمان المُظلِم الموحِش ... أخذت أجمع أنفاسي وأحاول إزالة الغطاء المُحكَم ... غطاء غوّاصتي العملاقة، وأحاول ولكن دون جدوى ... فأخذت مُخيّلتي تمزج لي ألوانًا مُختلفة يبدو أنّها تصنعُ شيئًا، لم أعرف ما هُوَ !
ويا لهُ من ضوءٍ مُشعّ أنقذ روحًا من الموت ... وأخذ هذا الضّوء يزداد أكثر فأكثر وكُلّما اقتربتُ منهُ كان يزداد، حتّى أعادني إلى ذلك السّرير الدّافئ النّاعم، ناصع البياض، الّذي احتضنني داخل غطائه، فنظرتُ حولي فلم أجد سوى طفلة صغيرة ... أبكاها القدر ... أنعم الله عليها وأعطاها كلّ ما يدلّ على جمال وجهها البريء المُشعّ وشعرها كالليل الحالك لا يطلع به صباح ولو ليوم واحد ... وعينيها كأرض جمال الرّحالة ... سألتها عن اسمها فلم تُجِب، وأخذت أكرّر سؤالي عليها ولكن لم أجد لهُ جوابًا ... اقتربت منها فأخذتها أقدامها إليّ واحتضنتني ... وأخذت بالبُكاء حتّى بلّلت قطرات دمعها وشاحي الأبيض ... فأخذت منديلًا وبدأت أمسح دمعاتها، وفجأة اختفت الطّفلة الباكية وأعادني القدر إلى فراشي الأبيض ... فأسدلتُ عينيّ لأغفو ... ويا لها من غفوة طويلة أرهقت مُفكّرة الرّمال هذه ...
الصّورة للتّوضيح فقط !