إخواني أبناء الطائفة الدرزية الكرام,
يطل علينا، مع إطلالة كل سنة جديدة، عيد زيارة مقام سيدنا الخضر عليه السلام، الذي نتفاءل بقدومه، ونستبشر بوجوده، مُبتهلين طالبين من الله, سبحانه وتعالى، أن تكون السنة الجديدة، التي بدأنا بها مع حلول العيد، سنة خير وبركة وصحة ووفاق وسلام وعطاء واستقرار وهدوء، لجميع أبناء الطائفة الدرزية، ولكافة أبناء الطوائف الأخرى حولنا. ها نحن نستقبل الزيارة هذا العام مع بداية فصل الشتاء، والإيمان يغمر القلوب، يبعث الدفء في نفوس أهل التوحيد, الزائرين الكرام لهذا المكان الذين توافدوا إلى المقام الشريف في هذا اليوم ، خاشعين ضارعين مُستغفرين المولى, سبحانه وتعالى, مُعتمدين وساطةِ نبيه ووليه الشريف،سيدنا الخضر ع .
لقد أقيمت الزيارات للمقامات واتُخِذت, في الماضي والحاضر, لتقوي الصلة بين الإنسان وباريه، عن طريق أنبيائهِ وأوليائهِ الصالحين، أصحاب القداسة والكرامات. وعندما نقف في رحاب أحد المقامات الشريفة، تمتلئ صدورنا بالفخر والاعتزاز بالمكان, وبالجماهير الغفيرة من المشايخ الأفاضل والشباب، الذين يُقبلون على زيارة المقام، بورعٍ وخشوعٍ وتقوه وإيمان، ناشدين الهداية والرعاية والعناية مِن العلي القدير, طالبين العفو والمغفرة من رب العالمين, سالكين طريق الهدى والسراط المستقيم، وعن الرذائل والمنكرات وما يخالف شرع الله, عز وجل, مُبتعدين.
لقد خلق الباري تعالى الإنسان في أحست تقويم, وغرس بداخلهِ بذور الخير, وجعلهُ قابلاً أن يتقبّل ويعمل كل ما هو مرضيٌّ لجلالهِ, وكل ما جاء بهِ دين التوحيد الشريف. لا شك أن كل زيارة جماعية لمقامٍ ما فيها دعم وتقوية من الواحد للآخر، ومن المجموعة إلى الفرد، حيث يستطيع كل إنسان أن يلتقي بأخيه الإنسان، فيتبادلا معاً الأحاديث، فيأخُذ الواحد منهم عن الآخر، خاصة في ظروفٍ كالتي نحن بصددها, حيث لا يوجد فيها استقرار أو اطمئنان في كثيرٍ مِن البلدان.
نحن اليوم ننعم, والحمد لله, في بلادنا بأمان وهدوء واطمئنان, لكن هذا لم يكن متوفرا دائما، وقد مر سكان هذه البلاد في الماضي في ظروف قاسية، وبأوقات عصيبة، وبحروب ومشاكل ومجابهات، وتحمّلوا الكثير من المشقة والعناء فجاء لطف الله, وبعونه استطاعت القيادات الدينية والزمنية، أن تجنّبهم الأخطار، وأن تحميهم وتوصلهم إلى بر الأمان، بحيث لا تزال استمرارية تاريخية متواصلة قائمة للدروز في هذه البلاد منذ ألف عام وحتى اليوم. ومما لا شك فيه، أن ذلك تحقق بفضل العناية الإلهية، وتمسّكنا بمقدساتنا وعاداتنا وتقاليدنا والفضائل المُشرِّفة التي نملكها ونعتز بها.
هذا ويمكننا القول، إن الأخطار التي كنا نواجهها في الماضي، كانت أخطارا مصيرية هائلة مرعبة، لكنها كانت تواجهنا بوضوح، وكان بمقدورنا، بعونه تعالى، أن نتصدى لها، وأن نستعد لمجابهتها، وأن نتغلب عليها. أما الأخطار التي تواجهنا اليوم فهي أخطار لا تقل شراسة وضراوة عن الأخطار السابقة، لكنها مغلفة بثوب ناعم، وخطورتها أكبر بكثير من الأخطار المخيفة الهائلة تلك, فالخطر الكبير الذي يتحدانا ويُجابهنا اليوم، هو خطر الانجراف وراء المدنية الزائفة التي تغرينا بنعومتها وحلاوتها وزُخرفها, وتجرفنا إلى أماكن ومواضع ليست لنا، وتقودنا إلى أفعالٍ نهى عنها الدين والعرف والشرع . إن من أكثر الأمور خطورة هي الانجراف وراء الملذات والشهوات، خاصة من قِبل الأجيال الصاعدة, التي أخذت تبتعد عن كل ما تمسّك به الآباء والأجداد، وسُحِرت بلطائف ونعائم ما يغري وما يغوي، بحجة الرقيّ والتقدم والمدنية، فوصل البعض منا إلى متاهات، وإلى أماكن لا يرضى الله لنا دخولها والسير في طرقاتها. لا بأس أن نتعلم ونتقدم ونسافر ونختلط بالناس ونستمتع بالتقنيات الجديدة وبوسائل الاتصال الحديثة، لكن علينا أن نضع ضوابط لأنفسنا وكوابح لجموح رغباتنا، وأن نجعل لنا حدودا وروابط تشدّنا دائما إلى الداخل وإلى الصميم، الى ثوابت ورواسي الدين وإلى كل ما هو مقبول ومطلوب ومعمول بهِ عندنا منذ عهود.
الانسان الذي يتعلم ويتقدم ويتطور يكتسب مع الوقت ثقافة وحضارة يصل مِن خلالها إلى نتيجة حتمية في أن لذة الحياة ليست في الأمور الملموسة أو المحسوسةِ المادية، وأن كل هذه الأمور زائلة لا تدوم, وأن لذة الحياة تكمن في الروحانيات, وفي الأمور القدسية والمسالك التوحيدية الخالدة، التي تكفل للمرء العيش الكريم, واللذة الروحانية. هذه الأمور تتوفر بالتقرب من الله، سبحانه وتعالى، وبزيارة مقاماتِ وأضرحةِ الأنبياء الكرام، بحفظ الإخوان، وبالاجتماع على الدرس والصلاة وحب الناس وحب الخير للجميع.
وكما نتزود سنويا بماء المطر ليعيننا في أوقات المحل والجفاف، كذلك نتزود في زياراتنا للمقامات الشريفة، بالرطوبة الروحانية التي تغذي فينا الإيمان، والتي تُكسبنا الشعور بالعزة والكرامة والتسامي.
المطر يبعث في الأرض اخضرار الزرع والنبات، وزيارة المقامات تبعث في النفوس اخضرار الإيمان والتقوى والرُشد والمحبة والتآخي والصلاح والإصلاح .
هدانا الله وإياكم إلى سِراطه المستقيم, وأسعدنا وإياكم بفيض خيره المستديم .
أعاد الله علينا العيد كل عام وأنتم بألف ألف بخير .