تقدمة:
العرب الدروز بعد ال-48، كما هو معروف، هم حالة خاصّة في المشهد العربي الفلسطيني في بلادنا، ناتجة عن سياسة مؤسساتيّة مورست عليهم بتعاون الرجعيّة بينهم منذ عام ال1948، بلغت الأوج عام ال1956 حين نجح مخطط المؤسسة وأَبطلت عنهم الإعفاء من الخدمة العسكريّة الإجباريّة الذي كان ساريا عليهم كبقيّة الأقليّة العربيّة.
تتابعت حلقات مخطط العزل والفصل وضرب الهويّة وانعكس ذلك على مجمل الحياة وبضمن ذلك سلوكهم الانتخابي، وإن لم يختلف عن بقيّة العرب جوهريّا في العقود الأولى إذ صوتوا بغالبيّتهم للقوائم العربيّة المشتركة حينها والمرتبطة بحزب "مباي-العمل"، إلا أنهم ظلوا بغالبيتهم خارج تبلور التمثيل العربيّ الأصليّ: الحزب الشيوعي بداية ولا حقا القوائم العربيّة المختلفة، وما زال سلوك الغالبيّة منهم اليوم انتخابيّا خارج القوائم العربيّة، إذ تتقاسم الأحزاب الصهيونيّة غالبيّة أصواتهم لدرجة أن تندّر أحد المتندرين: "لو أن حمير اليهود أقاموا حزبا لوجدوا لهم بين الدروز مصوّتين!".
هذا مؤشر غربة فاقعة وعزلة ساطعة عن فضائهم وعن أي انتماء مبدأي، يطول الحديث في الخلفيّات والأسباب وليست هي في سياقنا الآن، اللهم إلا الإشارة إلى ظاهرة بين طبقة بينهم، لسخرية الأقدار كلها من المتعلمين، تتبارى وتتنافس في شبك علاقات مع شخصيّات سياسيّة حزبية يهوديّة، فلكل عضو كنيست يهودي في حزب تابعٌ له "رجل تراه كالنخل وما أدراك ما بالدّخْل"، مقاول أصوات يجرّ معه عائلته تصويتا لهذا العضو في الانتخابات التمهيديّة ومن ثمّ البرلمانيّة وكلّ منهم يرى نفسه، على الأقل، عضو كنيست افتراضيّا.
لقد عالجت هذا السلوك الانتخابيّ دراسيّا عقب انتخابات ال2006 وانتخابات ال2009 وعلى خلفيّة النتائج غير المسبوقة التي حققها حينها التجمع الوطني الديموقراطي وازدياد قوة الجبهة وخلصت إلى:
"المعطيات جديرة بدراسة موضوعية لدى القوى الوطنية بعيدة عن " العوم على شبر ماء" ومن منطلق أسبابها ومنطلقاتها وضرورة وإمكانية الحفاظ عليها لتحويلها من مؤشر إلى بداية تحول، إلى تحول. نسبة التصويت في الوسط العربي الدرزي عادة هي من الأعلى في البلاد وأكثر من الوسط اليهودي، وذلك ناتج عن التصويت الشخصي، فالعرب الدروز الذين صوتوا للأحزاب الصهيونية لم يصوتوا مباشرة لها وإنما انطلت عليهم مؤامرة التصويت لمرشحين دروز في هذه الأحزاب (وأضيف اليوم أو وجود "أتباع" من القرية أو العائلة لهم مصالح في الأحزاب وعادة وظائف)، الأمر الأساس الذي رفع نسبة التصويت بينهم.
وظل مدى تأثير القوى الوطنيّة العروبية بينهم محدودا لأسباب موضوعية احدها أنها لم تلق الدعم الكافي المنهجي من الأحزاب العربية التي نشطوا فيها. فما معنى أن يمتنع عن التصويت حوالي نصفهم رغم أن الأحزاب الصهيونية شملت كذلك هذه المرة (عام 2006) مرشحين دروزا في قوائمها، هكذا فعلى حزب كديما وحزب العمل.".
بداية التغيّر في السلوك الانتخابيّ:
تمّ اختراق هذا السلوك نسبيّا على يد الحزب الشيوعي في العام 1969 عندما صوّت المئات من العرب الدروز للحزب، ممّا حدا بصحيفة "يديعوت أحرونوت" أن خرجت، تعليقا، بعنوان: "حتّى أنت يا بروتوس؟!". إلا أن هذا الاختراق عاد وتقلّص لاحقا رغم الازدياد الاطرادي ولكن الطفيف في عدد "البروتوسيّين" المصوتين للحزب الشيوعي. عادت دالة الاختراق وارتفعت في انتخابات عام 1999 وارتفعت أكثر عام 2006 ومثالا حصد التجمع في:
بيت جن: 21% والبقيعة: نسبة 21% ، منها 91% من العرب الدروز. وساجور: 25% . وجولس12%.
بلغ ما حصل عليه التجمع الوطني الديمقراطي على حوالي 5000 صوت، ورغم قلة نسبة التصويت في البلدات الكبيرة إذ وصلت في الدالية إلى %47 وفي المغار %46 ويركا %51.
لا شك أن دخول التجمع الوطني الديموقراطي بتحالفه مع حركة الوحدويّين الوطنيّين على الساحة العربيّة الدرزيّة سنة 1999 (للذكرى وللتذكير: التجمع خاض انتخابات 1999 بتحالف مع الحركة وتحت اسم مشترك التجمع الوحدوي الوطنيّ انضم لاحقا إلى هذا التحالف الطيبي)، وتحقيق هذا التحالف إنجازا انتخابيا من المرّة الأولى، وقبل أن يحصل السفر إلى سوريّة، إذ نال في بيت جن 528 صوتا، هذا الدخول ونتائجه أوجدا نوعا من المنافسة مع الجبهة شحذت همم القوى الوطنيّة التجمعيّة والجبهويّة وازداد التصويت للقوّتين مع ميل بدأ يتسع للتجمع الوطني الديموقراطي بعد أن امتزجت حركة الوحدويّين في صفوفه، اتساعا له أسباب عدّة ليس الآن المكان للخوض فيها.
يمكن اعتبار انتخابات ال-2006 نقطة بداية هامة في التحوّل في السلوك الانتخابي للعرب الدروز إذ حصل التجمع الوطني الديموقراطي كم أسلفنا على قرابة ال-5000 صوت ونسبة فاقت ال 20% في بعض القرى وحصلت الجبهة على حوالي ال2000 صوت. هذه الأعداد وأخذا بالاعتبار نسبة الامتناع غير المسبوقة إذ لم تتعد نسبة المشاركة ال-50% في المغار ويركا والدالية وعسفيا التي تكوّن معا 60% تقريبا من عدد الدروز، نسبة امتناع ما زالت كبيرة وللمثال في ال2013 لم تتعد النسبة في المغار ال%39 أيضا.
هذان الأمران لا شك كانا بداية تحول له مدلولاته من ناحية ومن ناحية أخرى يضع مسؤوليّة تاريخيّة على القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة، والعربيّة عامة إذا أرادت أن تصلح خطأ تاريخيا وغُبنا تاريخيا لحقا بنا كأقليّة قوميّة في هذه البلاد تصبو لتكاملها ولاعتراف بحقوقها القوميّة الجمعيّة.
هل كانت انتخابات ال-2009 تراجعا ؟
حقيقة هي أن حصول الكائن الحيّ المسمى "ليبرمان" على آلاف الأصوات من العرب الدروز ليس فقط لأنه رشح درزيا مغمورا على قائمته الانتخابيّة، تثير مثل هذا التساؤل أو السؤال وخصوصا وأن التجمع رغم وجود مرشح "درزي" في مكان متقدم تراجع ليس بشكل كبير ولكن تراجع عن الانتخابات السابقة، والجبهة حققت بعض التقدم لكن ليس بالكبير وبالأساس على حساب التجمع (المغار والبقيعة ولأسباب انتخابيّة محليّة) ما عدا في موقع واحد هو بيت جن لم يتراجع فيه بل تقدّم.
لسنا الآن في صدد دراسة تراجع التجمع والتقدم الطفيف للجبهة عام 2009 مع أن الاثنين حققا معا نسبة لا بأس بها قياسا للسنوات التي سبقت ال-2006 وهذا بحد ذاته أمر جيّد. رغم ذلك فبداية التغيّر في السلوك الانتخابي للدروز الذي بدأ أو على الأصح برز في انتخابات ال-2006 استمرّ في ال-2009، ومعالمه :
أولا: الامتناع الكبير الذي فاق ال-50% في التجمعات العربيّة الدرزيّة الكبرى كما ذكر، والذي لا معنى له إلا نزع للثقة عن الأحزاب السلطويّة ومرشحيها الدروز، فقد حدث هذا الامتناع رغم وجود مرشحين دروز على لوائح حزب العمل وكديما وفي أماكن مضمونة أو متقدمة. فالدروز غير المسيّسين عادة وبسبب اعتبارهم التصويت هو للمرشح الدرزي في هذا الحزب وذاك يصوتون بنسب عالية تبلغ فوق ال-80%، فهبوط النسبة إلى هذا الحد ليس وليد صدفة وإنما فقدان ثقة بالأحزاب السلطويّة ولكنهم لم يرتقوا إلى البديل.
ثانيا : ارتفاع نسبة التصويت للتجمع في انتخابات ال-2006 بنسبة 300% ومحافظة الجبهة على قوتها معلمان آخران لا يقلان أهميّة عن الأول بل أكثر أهميّة، وإذا استُثمرا بشكل صحيح وإذا توفرت النيّة لدى الأحزاب العربيّة لتصحيح الخطأ والغبن التاريخيين فلهذين المعلمين أبعاد كبيرة على مجمل مسيرة عرب الداخل الوطنيّة والحياتيّة .
في انتخابات ال-2009 للكنيست ال-18 حاولت الأحزاب الصهيونيّة التقاط أنفاسها وإعادة العرب الدروز إلى الحظيرة خصوصا وقد شهدت الفترة البينيّة أحداثا هامّة في البقيعة وفي قضيّة أراضي الكرمل وأراضي يركا وفك الدمج بين عسفيا والدالية وكان عنوان كل هذه القضايا "عضو الكنيست العربيّ الدرزيّ"، عملت هذه المؤسسة موجهة من المخابرات على إعادتهم للحظيرة عبر وضع أربعة مرشحين على لوائحها في أماكن مضمونة أو قريبة، ولكن كل هذا لم يستطع أن يغيّر من الحقيقة الأولى: "نسبة الامتناع" لا بل فإن النسبة ازدادت.
ففي المغار بلغت النسبة 34% فقط وبالذات بين الدروز، وفي الدالية وعسفيا بلغت النسبة 44% وفي الكثير من المجمعات الأخرى لم تتعد ال-51% عدا القلّة ك- بيت جن ويركا وشفاعمرو وحرفيش. وبالمجمل كان عدد المصوتين الدروز الكلّي 65540 مصوت صوّت منهم 33620 مصوت أي فقط %51 منهم.
والأصوات التي حصلت عليها الأحزاب الصهيونيّة هذه المرّة لم تزد لا بل نقصت بسبب ازدياد نسبة الامتناع وكل ما كان هو تبادل أرقام فيما بينها فأصوات الكائن ليبرمان هي من كديما والليكود وذلك كتصويت فرديّ للمرشح، ولكن الحقيقة التي غابت عنّا ويجب أن نتحمل مسؤولية ذلك، أن ليبرمان دخل الساحة الدرزيّة طريقة الخاصرة الضعيفة للمجالس بالنشاطات الشبابيّة والمنح الدراسيّة والدورات التدريبيّة عن طريق جمعيّة كان يرأسها مرشحه شكّلت أكبر حركة شبابيّة هي "الشبيبة الدرزيّة"!!!
هذا ما كان وما الوضع اليوم عام ال2013؟
لم ترق الأحزاب العربيّة إلى التحدّي المطلوب الذي ظهر أو انتجته انتخابات العامين 2006 و2009، فالجبهة لم تستثمر الأمر كما يجب وإنما جزئيّا ورغم ذلك ضاعفت قوتها وكان بإمكانها كثيرا أكثر، أمّا التجمّع فقد استعاض عن العمل المبدأي بين العرب الدروز بعمل انتخابيّ فوظّف مركزّا للدروز (يذكرنا باللواء الدرزي في حزب العمل) (راجع بيانا صدر مؤخرا عن "جماعة التجمع الدروز" نشر في موقع بكرا يؤكد ذلك وعلى لسانهم)، أمّا الموحدة فغائبة كليّا عن هذه الساحة وأسبابها معروفة ومؤسفة في آن.
ولعلّ في النتائج في القرى العربيّة الدرزيّة "الصرفة" البيّنة على عدم الرّقي بالتحدّي (وعذرا عزيزي القاريء... فأنا لم أبلغ من النبوغ مستوى ذلك المفكرّ الذي سرق عنوان دراستيّ عام 2009 ونشر دراسة من لدنه في فصل المقال والجزيرة، استطاع حسبها "فصفصة" أصوات الدروز عن أصوات المسلمين والمسيحيين في القرى المختلطة لدرجة أن حددها حتى بمنزلة الآحاد ليثبت أني لم أجلب "الغلّة" المطلوبة):
بيت جن : التجمع : %21 عام 2006 و%28 عام 2009 و%7 عام 2013 .
الجبهة: %2 عام 2009 و%3 عام 2013.
جولس: التجمع: عام 2006 %12 وعام 2009 %8 وعام 2013 %2.
الجبهة: عام 2006 %0 وهكذا عام 2009 وعام 2013 %2.
حرفيش: التجمّع: عام 2006 %1 وهكذا ال2009 وفي ال2013 0%.
الجبهة: عام 2009 %1 وعام 2013 %3.
يانوح- جث: التجمع عام 2006 %1 وهكذا العام 2009 وفي العام 2013 %0.
الجبهة: عام 2009 %1 عام 2013 %3.
يركا: التجمع عام 2006 %2 وهكذا عام 2009 وفي العام 2013 %3.
الجبهة: عام 2009 %9 وعام 2013 %39.
تجدر الإشارة أن في المغار والبقيعة ويركا هنالك قوّة تقليديّة كبيرة للجبهة بين العرب الدروز تفوق كثيرا هذه الأرقام نسبة وعددا. طبعا هذه النسب، عدا يركا، هزيلة أصلا بكل المعايير، ولكن الأهم أنها تشكلّ بالمجموع تراجعا في الأصوات للأحزاب العربيّة عن سنوات ال2006 وال2009 وهذا هو الأمر المقلق أكثر. ( التجمع نال حوالي ال800 صوتا من العرب الدروز وما نالته الجبهة حوالي ال 4500 صوت). فلماذا فقط هذا وما العمل رغم أن الأحزاب الصهيونيّة وبدعم أو صمت "دروزها" هي أساس كلّ البلاء المبتلى به العرب الدروز؟!
بين القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة رموز في الحركة الوطنيّة العربيّة العامة وفي الصّف الأول، ورغم ذلك لم تستطع حتّى الآن فعل اختراق جدّي في الساحة العربيّة الدرزيّة، صحيح أن هنالك ظروفا موضوعيّة تراكميّة عمرها عقود ولكن هذا لا يعني إعفاء من المسؤوليّة وبالذات على ضوء نتائج ال2006 وال2009 والتراجع في ال2013. ربّما تكون الفرصة سانحة الآن لإعادة تقييم جذريّ للعمل بعيدا عن الآراء المسبقة والانطلاق بترسيخ وحدة هذه القوى وترسيخ الإيجابيّ من المشاريع كمشروع التواصل مثالا لا حصرا، والخروج من أنماط العمل المحافِظة التقليديّة. وإني أدعو إلى لقاء يطرح الأمور بكل صراحة وشفافيّة يتلوه مؤتمر يؤسس لانطلاقة جديدة تكتيكيّا واستراتيجيّا.
إن تأتى هذا، فلن يكفي إن استمرّت القوى العربيّة الوطنيّة بالتعامل مع هذه الساحة وقواها الوطنيّة ك"كمالة عدد" في ساحة ميؤوس منها وعبر مقاييس انتخابيّة تصويتيّة تأخذ بالحسبان المكسب الالكتورالي، وليس عبر معايير وطنيّة بعيدة النظر ومعزولة عن السلوك الانتخابيّ الآني. ولن يكفي إلا باستثمار جهد خاصّ في هذه الساحة يرفد القوى الوطنيّة بينهم بمقومات عمل تعطيهم الإحساس والقدرة على نقل هذا الإحساس أنها والساحة من "عظم الرقبة" و"من أهل البيت" والجبهة المطالبة أولا بذلك.
هذه مسؤوليّة وطنيّة من المستوى الأعلى لأن البيت لن يكمل دون جزء منه مهما تخيّل بقيّة سكانه أنه كامل الأوصاف، أولم يقل السيّد المسيح (ع) ببعض تصرّف: "إن الحجر الذي أهمله البناؤون يمكن أن يكون حجر الزاوية"؟، وحتّى لا أُفهم خطأ، ليس العرب الدروز بهذا الحجر ولن يكونوا، ولكن وفي سياقنا مثلنا الشعبيّ يقول: "الصرارة (الحجر الصغير جدا) تسند البنيان".
وأخيرا: ألا تستحق هذه "الصرارة" حفاظا عليها على الأقل سندا للبنيان؟!