وصل الى يدي ديوان شعر بعنوان " طَار العرِس بالرِّيح " وهو باللغة العامية للشاعر جمال عبدهُ من البقيعة . والشعر هو شعر سواء كان بالعامية أو الفصحى .
لكن ما يميّز الشعر العامي أنه للخاصة والعامة ، يفهمه جميع الناس ، وهو أقرب للفكر والأذهان ، وأكثر جذبا للجمهور ، والدليل الزجل اللبناني نال شعبية واسعة في الأقطار العربية ، وتأثر به الشعراء لدرجة أنك قلمّا تجد في بلادنا شعرا فلسطينيا ، لا سيما الزجل ، إلا ويرشح باللهجة اللبنانية .
المهم في كِلاهُما العامي والفصيح مسألة الجودة ، فهي المقياس الأول . فإذا أجاد الشاعر استحق أن يُسمّى شاعرا ، وإن أخفق فليترك هذه الصناعة ؛ وإلا فإن الزمن كفيل بأن ينثرها بددا !
في الواقع إن جمال عبده يقف الآن بين هذين المفترقين ، ولا نعرف كيف سيكون مستقبله الشعري إذا أراد الإستمرار . لكنني أرَجح بأن الزمن لن يخذله ، وذلك لسببين ، أولا ، انه ما زال يتلمس طريقه في عالم الشعر ، والطريق طويل .. ثانيا ، في شعره نُتَف متفرقة واعدة ، كما في قصيدته الأولى من الديوان " حِلّي البُكل " لا بأس بها فكرة وأسلوبا :
" حِلّي البُكل / خلّي الخصَل تِسرح / للريح شَعرِك نِذِر / عاشطّ قلبي ترقص مْواجو / ويِنجنّ فِيّ البحِر / شيطان شِعْري يُصفُن / يتمتِم بيوت مكسّره / تبلّش بإسمك .. تخلص بإسمك / أَشْكُل سكوتو بْضِحِكتِك / وْفَرفِط عَ مطرح دَعستك / ورد العُمر .. " .
كذلك مقطوعته " شو بدو يكون بدّي " لمحة سريعة ولطيفة تعكس تطلع الإنسان الى الحياة الهادئة البسيطة ، الى الصبح المفعم بالوجه الحسن والأغنية والقهوة :
" ودخلِك / شو بدّو يكون بدّي / من كلّ هالدنيا / وهالكون المعثّر / غير أصحى / كل يوم / عا وجهك / وفيروز / وقهوة بلا سكّر .. " .
والى المقطع الأول من قصيدته لو تعرفي :
" لَو تِعرفي شو كْتَبت عن خَصْرِك / كان قدّستيه / كان لمّا بْتُرُبطي الزُنار / بتعرفي قَدّيش / بِتوجّعي قَلبي نْشَدّيتيه " .
من المعروف أن الشعر العامي يمتاز بالطلاقه وسهولة الألفاظ . وهذا المقطع جاء بخلاف ذلك ، يبدو وكأنه مُقيد ، شُدّ بخيوط غير منظورة ، خاصة هذه ال " نْشَدّيتيه " لا تدور على اللسان !
ونظرة الى القصيدة ككل نجدها تكاد تخلو من الموسيقى التي هي روح الشِعر . وقد ركز الشاعر على " الخصر " فأعطاه حق الأولوية وكرره عدة مرات . وكأن الله ما أبدع في هذه الأنثى سوى خصرها ! وبالمجمل فإن هذا الخصر تعرضَ خمسة عشرة مرة في الديوان . يعني لو كان خصر ( عَشتروت ) ما نال هذا التكريم !
مقطوعته بعنوان " قنطرة " تتحدث عن غزة ، وهي باعتقادي مرشحة للإلغاء ،كونها سطحية ولغتها إخبارية محض :
" إبن تسع سنين من غزة / يضرب حجر ع مجنزرة / ومن المحيط / حتى الخليج / ملايين / عم يترقبوا وخايفين / بْسقف بيتو سمع حجر زغير قال .. / لا تخافي .. / ساندِك يا قنطرة " .
في العامية ــ كما مر معنا ــ هناك ما يُسمّى تحولات الكلام على مستوى الأبجدية . تحذف الألف من الجمع المذكر السالم ، مثل " يترقبوا " في المقطوعة التي أوردناها تكتب يترقبو . وخطأ الألف عند الشاعر ظهر في قصائد أخر : بيروت . نكبة . شهيد . المرابي المغرور . وفي العامية تُحوّل الشين الى سين . سجر بدلا من شجر . تلج بدلا من ثلج . قوس قدح بدلا من قوس قزح . كتب الشاعر " شجر . ثلج . قوس قزح " في قصائده : نكبة . بياض . يا رايح ع البلد .
من صفات الشعر أن يكون عميقا نوعا ما ، وموحيا قدر المستطاع . فأين العمق وأين الإيحاء في المقطوعة التالية :
" ساحِر جمالِك / إلهي / كثير ...مش معقول ../ شو لْ خلاه كُلّو يتجمع بإنسان ؟! / صعب الحقيقة أفقها يوسع جمالِك / إنتي شغل كذبي / مأكّد خلقتي ../ بأول يوم من نيسان "
ربما اعتقدَ بأنه يمتدحها ! لكنه يؤكد أنها " شغل كذبي " وهذا قد لا يروق لها حتى لو كان من باب المداعبة .
وإنْ كان من آفات الشعر مضغ الكلام ، فقصيدته " الشام صورة مبروزة بشريط شوك " تمثل هذا الجانب . يخبرنا أن هذه القصيدة كتبت بعد محادثة صوتية مع إحدى الصديقات في سوريا .
لنستمع كيف يبدأ ، والبداية في كل قصيدة هي غالبا تحفزنا على الإستمرار بوقعها الطيب في الذهن ، أو تنبهنا بأنْ لا نهدر وقتنا عبثا :
" اهلاً / أهلين / أهلاً .. سامْعِك / كيفِك .. / سامِع .. / كيف حالِك .. "
ما رأيكم ؟ أأنتم على استعداد للمزيد ؟ ! بصراحة كنتُ على وشك الضجر وأنا أتجشم هذه النماذج ! لكن جمال عبده أسعفني بقصيدته الموسومة " حلم لحظة " ننتخب منها السطور التالية :
" مْرقتي بِبالي حِلِم لحظه / شَرْدِة عِطِر مِن شَعرِك المَنْعوف / وْجوز الحلَق عَالمشيِه يِتْمَرجَح / يْحَبرِم وعِنقو يْمِدّ / تَ يْطول من خدّ الورِد بَوسْي / وفُستانك المَكسي / هلْ مِش مْصدّق كيف تَلبِسْتِيه / معجوق فيكي / يْضُمِّك وملهوف / يْنَعنِف الجوري حالُه عَ جْريكي / والخمِر يِتْدَلْدَقْ / حوالي الكاس "
في هذه القصيدة استطاع الشاعر أن يصّور اللحظة الشعورية تصويرا شائقا . ومن المنصف أن نقيّم هذه القصيدة على انها ومضة موفقة بامتياز ، لعلها شَردتْ من ومضات لم يحن موعدها بعد .