بقلم: مرزوق الحلبي
تشهد الساحة السياسية في إسرائيل سعيا مكشوفا لمحاصرة الأقلية العربية الأصلانية في الدولة العبرية من خلال تشريعين جديدين. الأول ـ يسعى إلى حظر إحياء النكبة في يوم استقلال إسرائيل. والثاني ـ يسعى إلى اشتراط المواطنة بالولاء لدولة إسرائيل كدولة يهودية. أما النقاش حول الاقتراحين فقد كشف من ناحية تأصّل النزعة اليمينية وصولا إلى تحويل الدولة العبرية إلى نظام أبرتهايد معلن، وبروز أفكار ديمقراطية جوهرانية مستعدّة للذهاب إلى إقرار مصالحة تاريخية مع العرب على أساس المبادرة العربية والاعتراف بالرواية الفلسطينية للصراع.
صحيح أن قوى سياسية واسعة في إسرائيل تنزع نحو اليمين لكنها حتى الآن لم تبلغ الذروة التي بلغتها في بداية الثمانينيات لا سيما غداة الحرب على لبنان. يومها كنتُ طالبا في الجامعة العبرية في القدس وقد كان لي نصيبي كباقي زملائي العرب من اعتداءات جسدية وبوليسية من شلل اليمين المزهوّ بانتصاراته على حركة العمل وحربه على لبنان والفلسطينيين. يُمكننا اعتبار تمدّد اليمين الإسرائيلي الجديد تطورا على خط تصاعدي سيُفضي بالضرورة إلى فاشية أو إلى أبرتهايد حتمي كما أشرنا سالفا. لكن يُمكننا، أيضا، أن نرى إلى هذه التطورات من زاوية تطور الهوية اليهودية في إسرائيل. وهي مقاربة قد تغيّر نتيجة القراءة للتطورات.
مكونات الهوية السياسية لمجتمع الدولة أربعة أساسية وهي: المكان والزمان (التاريخ) والذات والسيادة. ومن الملاحظ أن كل هذه المكوّنات في التجربة اليهودية في إسرائيل تتعرض للضغط أو للانحسار. فقد ضاقت الرقعة الجغرافية (المكان) لإسرائيل منذ بدء سلسلة الانسحابات من لبنان وغزة وبعض مواقع في الضفة الغربية. وهي عرضة لمزيد من الانسحابات وفق كل سيناريوهات الحل أو التسوية أو المصالحات. كما إن الزمن الصهيوني/ الإسرائيلي" صار مضغوطا بمثول تحديات وجودية أمام النُخب تتمثّل في تعمّق القناعات بوجوب إيجاد حل للمسألة الفلسطينية على نحو ما، وإن الزمن كعامل لم يعد يعمل في صالح الدولة اليهودية بحيث لم يعد بالإمكان الإبقاء على الوضع القائم. لكن للزمن بُعد آخر يتمثّل في الذاكرة التاريخية اليهودية أو الرواية فيما يتعلق بنشوء الدولة والحق التاريخي. هنا، أيضا، برزت الرواية الفلسطينية والذاكرة التاريخية للفلسطينيين في جانبي الخط الأخضر كعامل موازٍ للتاريخ الإسرائيلي الرسمي والرواية كما صاغها جيل المؤسسين. واللافت أن أوساطا إسرائيلية أوسع تتعاطى باحترام أكبر مع الرواية الفلسطنية وتقبل بها كرواية نقدية موازية أو رواية قائمة وحية تُرزق لا بد من الاعتراف بها. أما حرب لبنان الأخيرة إضافة إلى الحرب الأخيرة على غزة كشفتا في محصلتيهما الوجوديتين تهديدا جديدا وجديا على السيادة الإسرائيلية ضمن حدود الدولة أو في بُعدها الردعي في المنطقة. كل هذه التطورات كشفت الذات اليهودية أضعف من ذي قبل. فإذا كان زمانها ومكانها وسيادتها تتعرض كلها للضغط وعلى هذا النحو الجدي غير القابل للشطب بعملية عسكرية أو بفرج عربي، فإن السلوك اليهودي الجمعي سيتخذ أشكالا جديدة تحاول وفق منطق الأمور أن تعزز الهوية وتستعيد الطمأنينة أو الاستقرار أو القدرة على الفعل. ومن الطبيعي أن تلجأ هذه الهوية على التعويض عما فقدته بتكثيف الهوية أو التمترس فيها مقابل الآخر.
لننتبه أن كل هذه التطورات تحدث في إطار تطورين عامين هامين جدا، الأول، الأزمة الاقتصادية العالمية والتغيير غير المسبوق في السياسات الأمريكية عاميا وفي المنطقة. بمعنى، أن الأزمة الاقتصادية العالمية تفقد الاقتصاد الإسرائيلي قدراته ولياقته على إدارة الصراع لفترات أطول. أما التغييرات في السياسة الأمريكية فقد هزت العمق الاستراتيجي الدبلوماسي والعسكري لإسرائيل التي تمتعت ولا تزال حتى الآن بدعم أمريكي مفتوح من قبل ومن بعد.
إن مثل هذه التطورات مجتمعة تُضعف البناء التقليدي للهوية اليهودية في إسرائيل كدولة ومجتمع وسيادة. وهو ما يستدعي الترميم وإعادة البناء على نحو ما. وهو ما يحصل في إسرائيل الآن على خطين متوازيين. الأول، يدعو إلى البناء الجديد من خلال العودة إلى الأصل، إلى الدولة اليهودية كما تفهمها النُخب اليمينية، دولة اليهود دون غيرهم أو من خلال تفضيل اليهود وإقصاء غيرهم. ولا تتردّد هذه الأوساط في محاصرة التهديد الداخلي الممثل بالأقلية العربية الفلسطينية من خلال تشريعات جديدة عنصرية وإقصائية كعمل وقائي من ناحيتها. والثاني ـ يسعى إلى البناء من جديد من خلال القبول بمبدأ التسوية مع الفلسطينيين والمصالحة مع العرب بما فيهم سوريا على اعتبار أن شرعية إسرائيل واستقرارها كدولة ومجتمع وهوية لا يتوفران إلا بمصالحة تاريخية تعترف بشرعية الوجود الإسرائيلي وترسم الحق الفلسطيني بشكل سياسي وسيادي.
إن القراءة الهويتية للتطورات في إسرائيل قد تعرّف الحاصل على أنه سعي نحو تعزيز الهوية المهزوزة أو المُطالَبة بالتحوّل. وهو ليس بالأمر السلبي أو الإيجابي بل سيرورة متحوّلة قابلة للتغيّر بفعل عوامل خارجية وذاتية. وكل هوية تنبني بقوتي دفع، بذاتها وبفعل قوى خارجية عليها. لا يُمكننا أن نستخفّ بقوى الدفع المعقولة داخل الهوية الإسرائيلية والتي تتمثل فيما تم إنتاجه من أنساق منفتحة على الآخر داخل التجربة الإسرائيلية كالتوجهات الليبرالية المتطورة في القانون الإسرائيلي الأساس والفرعي، وما رسمته المحكمة العليا بقراراتها المتراكمة. ونشير في هذا السياق إلى الاعتقاد السائد في إسرائيل اليوم بأن هذه المحكمة لا بدّ ستشطب تشريعات يمينية كما هي مقترحة الآن اعتمادا على القوانين الأساس التي تشكّل القاعدة الدستورية للدولة العبرية. لكن يُمكن لضغط عالمي أمريكي على وجه الخصوص وعربي أن يؤثرا على جهة الحراك السياسي في إسرائيل خاصة إذ ما أحسن الفاعلون العرب منهم القراءة والاستنتاج. وأكاد أجزم أنه اللحظة الأمثل تاريخيا لدفع المبادرة العربية إلى الواجهة وتأكيد الخيار الدبلوماسي كخيار استراتيجي للعرب أجمع. كنا على اعتقاد ولا نزال أنه بإمكان العرب أن يؤثروا على النُخب في إسرائيل.