"عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات، الزاخر بالأمجاد لأني لم أرَ أقوى تأثيراً في النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم لاستنهاض الشعوب فتظفر بحريتها وتحقق وحدتها وترفع أعلام النصر. واعلموا أن التقوى لله والحب للأرض وأن الحق منتصر وأن الشرف بالحفاظ على الخلق، وأن الاعتزاز بالحرية والفخر بالكرامة وأن النهوض بالعلم والعمل، وأن الأمن بالعدل وأن بالتعاون قوة"
هذه نبذة من وصية المرحوم والمغفور له سلطان باشا الأطرش قائد الثورة العربية السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي البغيض..وقد ارتأيت ان استشهد بها بعد ان قرأت كتاب " انا من جبال اكرمل" الذي اهداني اياه اخي وصديقي كما ابو حمود ..الذي جاء على هدي هذه الوصية..
اذ ان الكتاب هو من سلسلة كتب جاءت لتوثق تاريخنا وتراثنا وحضارتنا وبالتالي وجودنا في هذه الأرض..والتي يحاول البعض من الباحثين والمؤرخين طمسها وتحريفها وانكار وجودنا فيها..فنحن ابناء هذه الارض وأصحابها وهي التي رويت بعرق جباها اجدادنا وجبلت بدمهم..فجذورنا ضاربة في اعماقها منذ بدء التاريخ وقبله..وذلك من خلال الشعوب التي تعاقبت على استيطان هذه البلاد..إلى ان اعتنق اليعض منها المذهب التوحيدي في بداية القرن الحادي عشر ميلادي.
ان اخي كمال قد اهداني كتابه هذا مشكورا.. هذا الكتاب الذي جاء ليلقي الضوء على تاريخ عريق وشعب أصيل سكن هذا الجبل الأشم..حيث اثبت المؤلف بالحقائق زيف الإدعاءات ..وحاولات التزييف السافرة ..بأن السكن التوحيدي جاء جديدا ومتأخرا ..وفقط في زمن الأمير فخر الدين المعني الثاني ..حيث دعّم المؤلف اقواله بشهادات ووثائق وحقائق دامغة..بإن الاستيطان التوحيدي لجبل الكرمل كان منذ أكثر من ألف عام ..وذلك ليقطع الطريق على الأكاذيب والإدعاءات بان الكرمل سكنه غير الموحدين العرب بمن فيهم اليهود ..الأمر الذي لم تثبته أية تنقيبات او اكتشافات اثرية في المنطقة ..
اللهم سوى ما روج له بعض الرحالة والمستشرقين ممن زاروا المنطقة او حلوا ضيوفا على ساكنيه من الموحدين الدروز امثال السير اوليفانت الذي استضافه اهل دالية الكرمل الا انه حاول تحرييف الحقيقة وإعادة الاسم العبري لقرية الدالية ليثبت وجود السكن اليهودي في المنطقة.
من هذا المنطلق عمد المؤلف كمال للعودة والبحث في الكتب والمصادر القديمة والحديثة ومراجعة ما كتبه الرحالة والمستشرقين امثال سانديس وهنري وبيكر..اضافة لبحثه في ارشيف وكتب المكتبات الجامعية في البلاد والبلدان المجاورة كمصر والاردن..حيث عثر على بعض المصادر التي ورد فيها اسم قريتي الدالية وعسفيا ..لتبان الحقيقة ان ما كتب على يد هؤلاء كان محاولة لتزييف الحقائق ..وطمس وجودنا وتاريخنا وتراثنا على هذه الارض...ليؤكد اننا اصحاب الارض والوطن واننا لسنا بلاجئين كغيرنا..
لقد نوه المؤلف الى التضارب الحاصل بين المؤرخين والباحثين اليهود انفسهم ..حول وجودهم وسكنهم لهذه البلاد وحول التناقض بين الاستكشافات الاثرية وبين ما ورد في التوراة ..التي جاءت لتثبت ان لا صلة بين ما كتب وبين ارض الواقع.
ان الكاتب يضيف براهين اخرى على وجودنا التوحيدي في هذه المنطقة ..على كون الكرمل مسكن وموطن للأنبياء ..كسيدنا اخنوخ الملقب بهرمس الهرامسة وبادريس في القرآن الكريم ..والست سارة قريبة سيدنا بهاء الدين زمن الدعوة التوحيدية في بداية القرن الحادي عشر ميلادي..ليورد ما كتبه المؤرخ ( التطيلي الأندلسي) الذي زار المنطقة في بداية القرن الثاني عشر ميلادي ..بان قائل عربية كثيرة كانت قد سكنت الكرمل كقبائل طي والأنباط واليطوريين العرب..كما كتب ما اورده المؤرخ اليهودي يوسف بن متتياهو في كتابه ( حرب اليهود مع الرومان ) من ان الكرمل سكنه اليطوريون العرب .الذين انحدر منهم قسم من الموحدين الدروز ..وأكبر دليل المقامات المقدسة للموحدين الدروز في الكرمل ..كمقام سيدنا ابو ابراهيم محمد بن اسماعيل التميمي ومقام سيدنا ابو عبدالله محمد بن وهب القرشي اللذان كان من بين خمسة دعاة للمذهب التوحيدي في بداية القرن الحادي عشر ميلادي ..
ودليل اخر على قدم سكنهم في المنطقة هو مناصرتهم للقائد صلاح الدين الايوبي في حربه ضد الصليبيين الغزاة ..كم حفعل عشرة اخوة من ابناء عائلة وهب ..وذلك من اجل الدفاع عن الارض والعرض والوطن..
كما يتطرق المؤلف الى سيرة الدعاة والسادة الأنبياء امثال الحزوري واليعفوري ومحاولة اليهود نسبتهم اليهم وتزييف التاريخ ومحاولة وضع يدهم عليها من خلال فرض سياسة الأمر الواقع..الا ان وعي الموحدين وتصديهم لهذا المخطط حال دون ذلك وبقوا هم اصحاب السيادة والمسؤولية على ادارة وصيانة هذه المقدسات ..داعيا الى الوقوف بحزم في وجه كل المحاولات التي تهدف الىطمس وجودنا وكياننا، والى التمسك بمقدساتنا وهويتنا التوحيدية ..محذرا ان تاريخنا ليس لهوا وعبثا بأيدي الطامعين والمحرفين..أنّا كانوا..
ان المؤلف لا يتوقف عند هذا الحد ، لا بل يتابع بسرد قصص وحكايات تروي مآث السلف والأجداد ، ومواقفهم المشرفة امام كل الغزاة ..الذين حاولوا استعمار واحتلال هذه البلاد كالمغول والصليبيين والعثمانيين وغيرهم والتاريخ مليء بالحقائق والوثائق.
وفي ختام الكتاب يتحث المؤلف عن الإكتشاف الأثري الهام للأنسان الفلسطيني القديم الذي سكن الكرمل قبل اكثر من 300000 عام ، عندما تم العثور على تسعة هياكل عظمية في مغارة الجدي في وادي المغاور في سفح الكرمل الغربي ....كما تم العثور على ثلاثة هياكل اخرى ..ليؤكد مكتشفها( السير أرثر) ان هذه الهياكل هي اعظم اكتشاف عن الانسان المعروف باسم ( رجل العصر متوسط الحياة) ..اذ جاءت هذه الاكتشافات لتؤكد ان الكرمل كان مسكونا منذ فجر التاريخ وقبل عهد التوراة بالاف السنيين ..
واخيرا أترك للقارئ متعة الترحال عبر صفحات الكتاب وأشد على يد اخي كمال متمنيا له الصحة والمزيد من العطاء خاصة في هذا المجال الذي نحن بأمس الحاجة اليه في هذه الأيام .