خلال ممارستي كتابة النقد الأدبي منذ عشرين عاما الى اليوم ، لم احظ باشعار عامية شعبية فتحت شهيتي ، كما حظيت بأشعار الأمير خالد الفيصل ، ديوانه الأعمال الشعرية الكاملة ، الصادر عن مكتبة العبيكان – الرياض سنة 1422 ه 2001 م ، أربعمائة واربعة و سبعون صفحة حجم كبير .
أتيتُ على جميع صفحاته وانا مندهش من هذا القلم المبدع الخلاق . وكنت كلما هممت بالكتابة عنه كمادة مغرية للنقد ، تعترض طريقي مشكلة معيشية من مشاكلي المزمنة ، فأهرع الى ايجاد مخرج لها . حتى كان الفاتح من يناير 2013 اي بعد سنة من حصولي على الديوان ، وجدت فرصة هذا الذي يسمى متعة الاكتشاف في العملية النقدية ، مادته الكلمات مفردة ومركبة اللفظ والمعنى واللحن ، تؤكد اننا ازاء شاعر كبير ، شاعر يمتلك مزايا جوهرية ولازمة في الشعر ، واولها انه مرهف الحس رقيق المشاعر .
يقول قدامة بن جعفر في تعريفه للشعر والشاعر : " وانما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره "
وهذا التعريف هو احد المقاييس التي نستخدمها في قياس الشعر . أطمعُ ان اضيف الى قول جعفر ، ان المشاعر في اية شاعرية تصبح اكثر قيمة حين يتوافر فيها العنصر الجمالي ، كما في الابيات التالية من قصيدة " يا قديم الغوص " لشاعرنا الفيصل ، يفصح فيها عن رأيه ومشاعره تجاه الحب والهوى ، يوصفه وصفا شائقا ، وعبر تجربة لا نشك بانها صادقة ، الامر المحفز على الاصغاء :
" يا قديم الغوص في بحر الهوَى / وش لقيت بغبّة البحر الغزير / علّم الّلي جسّ شطّه واهتوَى / ما بعد جرّب طويله والقصير / قالوا إنّه مَن جميع أمرٍ حوَى / فيه سر وفيه شر وفيه خير / واسمع إنّه مَنْ ركب موجه دوَى / من فِعل موجه غريقه يستجير / واسمع إنّه مَن لمس شطّه غوَى / ما يفرّق بين بحره والغدير / واسمع إنّه مَن علَى تركه نوَى / يجذبه سحره ويرجع له كسير " .
ان الجانب الجمالي في هذه المقطوعة لا يدرك بالنظر او الحكم المجرد ، إنما نستشعره من خلال ذائقتنا او حاستنا الفنية . وعلى سيرة الجمالية في الشعر يحضرني الفيلسوف جورج سانتيانا ، يفيد " ان الإحساس بالجمال يحرر صاحبه من قيود الجسد " .
ربما أن الشاعر كان بحاجة الى هذه الجمالية .. لكن ما يهمنا انه حققها بامتياز ، وهي تترغل في معظم قصائده ، تارة ينسجها بالفطرة ، وطورا بما يسمّى " الإدراك الجمالي " والذي يصل في بعض الاحايين حد النشوة ، كما في هذه الأبيات من قصيدة اذكريني :
"كل ما عانق نظر عينِك قمر / أو لثم خدّك شعاعٍ من غروب / أو نسيمٍ هفهف بْشَعرِك سحرَ / أو تغنّى بالهوى صوتٍ طروب / أو تَبلّل كفّك بْقطر المطر / أو تبسّم بالسما نجمٍ جنوب / أو ضحك وردٍ على عودٍ خضَر / أو نقل لك نفحة خزامَى هبوب " .
من أجمل ما قرأتُ في شعر الغزل ، سلس رقيق ومثير . واللافت في اشعاره التي تتعلق بالمرأة ، صدق العاطفة والنقاء ، ثم نظرته اليها ككيان أولا ، قبل ان تكون بهجة في الدنيا . وفي هذا المسار يخص زوجته الفاضلة بالإهداء في فاتحة الديوان : " الى قصيدة العمر أم بندر " .
بيتان يختزلان غبطته بحضورها ، ثم حبه وتقديره لها :
" لك يا عنود الصّيد حرفي ومعناي / عمري قصيدة حب قدّمتها لك / معك أشرقتْ شمس المحبّة بدنياي / صورة قصيدي لمحةٍ من خيالك " .
لقد أعرب أفلاطون في كتابه الجمهورية ما معناه : ضرورة الأخلاق والفضائل في الشعر . كذلك يحدثنا أبو هلال العسكري عن اهمية هذا الجانب . ونظرة الى قصائد شاعرنا الفيصل نجد أن الأخلاق والقيم هي إحدى الخطوط البارزة في شعره ، ومنها فضيلة التسامح في قصيدته " من بلاه الله " فيها من الحكمة ما يدعو الى الإعجاب :
" من بلاه الله تصبّر واحتسب / عادة المسلم علَى الشّدّة صبور / آتلمّس للخوي عذر وْسبب / لَى لحقني من بعض ربعي قصور / واتحمّل زلّة كحيل العرب / واتحاشَى عضّة الكلب العقور / أعشق الغالي ولاهوب الذهب / وانزل العالي ولاهيب القصور " .
ولا يخفى أن شاعرنا يحمل نزعة انسانية خاصة تتجلى في الكثير من مواقفه الاجتماعية والسياسية ، كقصيدته المؤثرة " يا غرب وين الصوت " . تدور حول أحداث البوسنة وما جرى للمسلمين هناك من الإضطهاد والإبادة ! يلقي اللوم على الغرب ويحثهم على التدخل لوقف هذه الحرب المدمرة :
" يا غرب وين الصّوت لحقوق الانسان ؟ / وراك في البوسنة تغاضيت عنْها ؟ / لوْ هو يهودي صحت في كل ميدان / واشعلت حرب اسرارها معْ علنْها / لكن علَى المسْلم ولو كان ما كان / تسكت ولو ذاب الصّخَر من حزنْها " .
وفي أبيات اخرى من القصيدة يصف ما آلت اليه أحوال الناس في تلك البلاد ، مما يثير في النفس أشد الألم :
" ما شفت هتك العرض ودموع نسوان / ولا سمعت صيْاح جايع لبنْها / وين انت عن تعذيب شيبٍ وشبّان ؟ / وين انت عن تشويه طاهر بدنْها ؟ " .
ثم ينتقل الى مجلس الأمن معربا عن قلة ثقته بموقفه وقراراته ، وفي الوقت نفسه يوبخ الغرب على تقلبه وتلوّنه في الكلام والأفعال ، كذلك يصل الى قناعة أن الإعتماد على الغير لا ينفع . يصوغ كل هذا بكلمات قليلة مكثفة :
" لوْ كان يردع مجلس الأمن عدوان / ما كان جيش الصّرب يامر وينْهَى / ما تستحي يا غرب تلوي بها لسان / وان جت علَى المسلم تغيّر لحنْها / ما ينفع المسلم من المجلس اعلان / وحقوقنا ما غيرنا احْدٍ ضمنْها " .
وفي باب المديح ، والقصد مدح الرجال ، لشاعرنا اوراق تدل على سعة معرفته بأصول وقواعد المديح ، بتناول الفضائل الأخلاقية ، ويعمل على موافقة الكلام لمقتضى الحال . وقصيدته الموسومة " يا خادم البيتين " تعبر افضل تعبير عن براعته في هذا اللون من الشعر . وهذه مقطوعة من القصيدة :
" يهناك نصر الله علَى كل خوّان / يا خادم البيتين سيّد وطنها / يا من وفا للجار يوم الرّدي خان / ويامن مروّات العروبه حضنها / ويا صاحب الراي المظفّر والاحسان / أحسنت للجيره وغيرك طعنها " .
وفي سياق المديح أيضا ، ينظر الى النقد نظرة تقدير واحترام ، ويؤكد بشكل لا مباشر أهمية مواكبة النقد للحركة الأدبية : " ناقد الأشعار لك منّي سلام / والتحيّه للفكر والإحترام / فرحتي لَى شفت لك رايٍ جديد / أو نظرت لبعض شعري باهتمام / يا رفيق الحرف في دنيا القصيد / عشقتي ويّاك في عذب الكلام / أنظم النّظرة بخفقات القلوب / وانت تنثرها دموعٍ وابتسام " .
وثمة صفة نبيلة في الشاعر ، وهي أنه مخلص ووفي لوطنه الى ابعد الحدود ، لا سيما حين يتعرض هذا الوطن للخطر . يمتشق شاعرنا قلمه ويبدع قصيدة حماسية ملتهبة ، وهي من أفضل ما قيل عربيا في المواقف التي تستدعي التأهب والذود عن الحق والأرض . قصيدة " هل التوحيد " . واظنه كتبها ايام غزو العراق للكويت ، أو قُبيل الغزو :
" ياهل التوحيد هبّوا للجهاد / مرخصين الروح والجنّه وعدْ / ما يدوس الباغي حدود البلاد / والنشامَى باقيٍ منهم ولدْ / دارنا من دونها خرط القتاد / دونها الموت الحَمَرْ قام وْقعدْ / ما تروّعنا جموعك والعتاد / الوعَدْ لَى جاك زلزال وْرعدْ "
بهذا الإستهلال الجيد للقصيدة يظهر بوضوح ائتلاف اللفظ والمعنى . أمّا القافية التي هي ظاهرة إيقاعية ، نجد أنها قوية وحاسمة ، ويجب أن تكون كذلك لأنها كما قال حازم القرطاجني : تقع في السياق التناغمي موقعا أساسيا .
وإذا كان الإندماج في الطبيعة من مظاهر المذهب الرومانتيكي أو الرومانسي ، فالشاعر يندمج مع طبيعة بلاده بما أودعها الله من سحر وجمال ، يتماهى معها حسا روحا وفكرا ، تصبح ملهمة له بأجوائها الخلابة كألطف ما يكون الشعر . ولا غرابة أن ارتياحه للطبيعة وحبه لها يعكس أثر أو تاثير البيئة ، ومنها الحنين الى بيت الشَعِر والحياة غير المقيدة .. وهذا الحنين قد أفضى به الى انعطاف الذات وميل وجداني الى عشق الحرية في الهواء الطلق ، يجسد ذلك بقصيدة ذات إشراقه بهية :
" لا تسألوني ليه أنا / عاشق خزامَى مستهام / إذا عرفتوني أنا / تدرون وش سر الغرام / أصلي أنا بيتي شعر / والبر هو ديرة هلي / فرشي ثرَى وسقفي سما / وترابها غالي عليْ " .
الى أن يقول :
" أحب مشيٍ بالخلا / حُرًّ من الديره طليق / شوفي يروح بلا حدود / ولا يقيّدني طريق / إن جا هوانا من شمال / أو هبّت النسمه جنوب / ألاعب أنسام الهوا / واهب إذا هبّ الهبوب / الله علَى شمس المغيب / والليل إذا نسنس هواه / الضّو تقدح بالجمر / والنّجم يقدح في سماه " .
وبعد ، أعرف بأنني في هذا المقال ، هذه السطور المتواضعة العابرة ، لن أوفيّ هذا الإنجاز الفخم سوى القليل القليل من حقه في التقييم . لذلك طرأتْ لي فكرة تتلخص بأن أقوم بمشروع دراسة مطوّلة بين دفتيّ كتاب يتناول هذه الرائعة بما يتيسر لي من معرفة واجتهاد . لكن تحقيق هذا الهدف منوط أولا وقبل كل شيئ بضروفي ... فإن استطعت إلى ذلك سبيلا فهذا من دواعي فخري ، وإلا سيظل هذا الكتاب لسمو الأمير خالد الفيصل ، سيظل في مكتبتي أعتز به كرمز للشعر الراقي والأصيل .
[email protected]