أولا اسمحوا لي أن أحيي القائمين على تنظيم هذه الندوة، فأدبنا وأدباؤنا بحاجة للدعم والتشجيع الحقيقي، وذلك بعقد الندوات واقتناء الكتب الأدبية أو حتى إصدارها وتوزيعها، إذ لا يكفي أن نطبع الكتاب، بل يجب أن نهتم بتوزيعه ووصوله إلى الجمهور .
وشاعرنا المحتفى به أبو نزار كمال إبراهيم يستحق التكريم لثلاثة أسباب:
أولا: غزارة إنتاجه الأدبي اذ أصدر خلال مسيرته سبعة دواوين شعرية، لاقت الاستحسان لدى النقاد وبعضهم أخذ عليه مأخذ الوضوح، رغم أن كبار الشعراء اتخذوا الوضوح طريقا لهم في بعض نتاجهم، حسب الغرض والحاجة، وبما أن لكل مقام مقال، فإن الغرض في شعر الأستاذ كمال إبراهيم يحتم عليه توظيف واستعمال الوضوح الذي يلائم الرسالة الإنسانية الشاملة والاجتماعية الإصلاحية التي تميز شعره.
ثانيا: بسبب رسالته الإنسانية التي يبثها في نصوصه وشعره، وسوف نفصل لاحقا.
وثالثا: بسبب عمله الصحفي الذي يقوم به بمهنية وإخلاص.
فلهذه الأسباب مجتمعة ليس بكثير عليه هذا التكريم من حضرتكم.
يقول الناقد الدكتور محمد خليل في كتابه "نقد على نقد" ص 42: " يستند النقد الأدبي حال تطبيقاته الإجرائية على النص الأدبي، وما يستتبعها من إصدار أحكام ذاتية؛ ذوقية وفنية وأخرى قيمية وفكرية إلى أسس وقواعد لا محيد عنها، لكنها في الوقت نفسه، تبقى محكومة بالنص الأدبي ذاته، وهو ما يسمى مراعاة الناقد لمقتضى حال النص المنقود".
من هذا المنطلق وفي هذه المداخلة سوف أستند على نقاء الصورة والرسالة الإنسانية في شعر المحتفى به، كأسس قيمية وفكرية. فنقاء الصورة في شعر كمال إبراهيم يأتي سلسا، مقبولا وملائما للفكرة، لأن مواضيع كثيرة لا تحتمل الغموض والإبهام، وتحتاج إلى نقاء الصورة لإيصال رسالتها ومغزاها بشكل مباشر، وهذا ما يميز شعر أبي نزار الذي يزخر بالمشاعر الإنسانية.
وما أقوله هنا لا ينفي بتاتا وجود شعر غامض جميل رائع، ولكن بعض هذا الشعر الغامض الزاخر بالإنزياحات، والاستعارات المستحيلة والذي يوظف أحيانا الأساطير، أو الرموز التاريخية، الثقافية، الاجتماعية أو السياسة، بكثافة معقدة هو شعر يستصعب الكثير من النقاد تحليله، وأحيانا يستحيل فهمه، فيبقى غير منتشر، تتداوله نخبة قليلة من المثقفين، ويمسي منحصرا في شريحة ضيقة من القراء، وبالتالي لا يؤدي رسالته المطلوبة.
وكما ذكرت سابقا كبار الشعراء استعملوا نقاء الصورة لإيصال الرسالة الشعرية: والأمثلة كثيرة، وأشهر القصائد الشعرية تتمتع بنقاء الصور، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، كلمات شاعرنا الكبير سميح القاسم الذي نتمنى له الشفاء ليبقى نبراسا لنا جميعا:
منتصبَ القامةِ أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي....
وكلمات المرحوم الشاعر الكبير محمود درويش:
أحنّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وكلمات نزار قباني في العديد العديد من قصائده، منها:
جلست .. والخوف بعينيها / تتأمل فنجاني المقلوب / قالت: يا ولدي لا تحزن / فالحب عليك هو المكتوب.
إنها صور واضحة نقية تلامس الشعور الإنساني النبيل، وتأتي تلقائية بدون تكلف، فتدخل القلوب من أوسع الأبواب.
بينما ثمة صور للشعراء الكبار صيغت بكلمات إذا لم نلقها إلقاء شعريا نظنها نثرا، ولنستمع:
"ألاحظتِ شيئا ؟
ألاحظتِ أن العلاقةَ بيني وبينك، في زمن الحرب
تأخذ شكلا جديدا
وتدخل طورا جديدا وأنك أصبحت أجمل من أي يومٍ مضى
وأني أحبك أكثر من أي يومٍ مضى".
إلى هنا الاقتباس.
هذه الكلمات هي من قصيدة (أحبك في زمن النصر – نزار قباني / دمشق نزار قباني).
أكتفي بهذه النماذج لأبرهن أن نقاء الصورة لم تمنع وصول الشعراء إلى قمم عالية وإلى جمهور كثير.
ولنأخذ مثالا من شعر المحتفى به على نقاء الصورة، وأختار لكم قصيدة حلم من ديوان "آخر النفق" لأنها تلائم وضعنا اليوم في الوطن العربي وخاصة في سوريا والعراق، واسمحوا لي أن أقرأها كاملة فهي ليست طويلة:
سألتُ الفؤاد / أن يشرح لي / عن حلم / قبيل الفجر في ذاك الصبح الجميلْ
فأجابني: كم كنت أرغب / أن أرى بدرا يشع نورا / في عتمة الليل الطويلْ
يا سائلي عن سكون الدجى / وعن همسة الحب / في وقت الأصيل
خذ مني كلاما / فيه الدواء / فيه الشفاء / لعاشق عليل
يا نسمة الريح / ويا غيمة تسري / في أعالي الجليل
احملي أخبار بلادي / وانقليها إلى الشام / و"بغدادي" / وأمطري في ذاك البلد القتيل
أسطورة شعب ناضل / عاش القهر والفقر / وعانى الحرب والتدويل
يا شامُ أهديك سلاما / من الكرمل / ومن سفوح الجليل
أرسليه شرقا عبر الفرات / إلى دجلة / بأبيات شعر / فيها من بحور الخليل
ما يؤنس القلب / ويسأل الله / أن ينثر بذور السلم والحب / في بلاد العرب.
فيا بلاد العرب / قد طال ليلنا / وصبرنا جميلٌ جميل. (ديوان آخر النفق – قصيدة "حلم" ص: 24).
إنه الشاعر الذي يتأثر بما يجري حوله، فيكتب للربيع العربي، ويقول:
لحنُ الخلود
ريحٌ مُعطرةٌ / تهُبُّ من المغرب العربي / تنثرُ قطراتِ الندى
وتلتقي بريحٍ دمشقيـَّة / تتعانقانِ في السماءْ، / ترسُمانِ باقةَ وردٍ / إكليلـُها القدسُ / وَعِطرُها سبارتاكوس ....
ريحٌ قادمةٌ من صنعاءْ / تـُرَفرِفُ شمالاً، / ترقصُ فوقَ النيلِ كزوربا / وتبعَثُ إلينا مِن هُناك / لحنَ الخلودْ.
يا أيتها الريحُ / جوبي كلَّ بقاع الأرضِ / هُبّي شمالاً / وهُبّي جنوبًا،
شرقـًا وغربًا / اعبري كلَّ الحدودْ / مَزِّقي مِعطفَ الظـُلمِ والطغيانْ / ارفعي رايةَ الأحرار / واحفظي كرامةَ الإنسانْ / أنشري في الأرضِ طيبًا / وأعيدي لنا مجدَ الجدودْ.
(ديوان: أوركسترا السكون – قصيدة: لحن الخلود)
إنها الرسالة الإنسانية الشاملة، إنه الشاعر الذي يبحث ويتساءل:
أيها الشافي / بالله قل لي / كيف نستأصل الشر / في زمن / يسبح أهله وحكامه / في بحر الرذيلة
كيف يأتي الدواء / لمن ليس له / في اليد حيله؟؟
(ديوان آخر النفق – قصيدة "أيها الشافي" ص: 9).
وعندما لا يجد جوابا لتساؤلاته، يتزايد ألم المآسي الذي يصل إلى أعماق الشاعر فيثور قائلا:
تبا لمن دك بالبارود / أوطان السلام
فغادرت أعشاشها أسراب اليمام.
(ديوان آخر النفق – قصيدة "قوس قزح" ص: 58).
وفي النهاية يعود إلى ربه لاجئا مسترحما فيقول:
يا رب السماء / يا ملهم الأنبياء والشعراء
عندما الهم يغمرني / منك أرجو شفائي.
(ديوان آخر النفق – قصيدة "مناجاة" ص: 6).
تمتد هذه المعاني الإنسانية الشاملة التي تداعب أشغفة قلوب القراء في أي زمان وفي أي مكان، وتنتشر من خلال مسيرة الشاعر في كل دواوينه، فنجده متأثرا بتراثه وبالمواقف الوطنية النبيلة والشجاعة، يرثي سلطان باشا الأطرش ، في ديوان الفجر الأزرق ، ويرثي محمود درويش، ويكتب عن الجولان، وعن العدل والسلام .
ويناجي بلاده في عدة نصوص، كما أننا نجد في شعره الإنسانيَّ المواضيع الاجتماعيَّة، الفلسفيَّة، الوجدانيَّة والوطنيَّة فلا ينسى باب الفخر ويكتب في ديوان "حديث الجرمق":
( "دروزٌ هُمُ الثُّوَّارُ كم سُلَّ سيفُهُمُ عرفنا بهِمْ جودًا وصدقاً وإيمانا
نراهُمْ بحربٍ خاضَها الغربُ طامِعًا هُوَاةَ الرَّدَى سَلْ يا فرنسيُّ "حَورَانا"
كما أن العديد من قصائده تتمحور حول موضوعات العدل، الحرية والسلام.
ولا يستثني شاعرنا أسمى المشاعر الإنسانية المتعلقة بالأم فيخصص لها قصيدة في ديوان: "رحلة الطيور المهاجرة "، حيث يقول:
في عـِيدِك ِ يا أمِّي / أهْدِيكِ وَرْدَة َ فـُلٍّ وَرَيحَانْ.
أمِّي يا نبعَ حُبٍّ وَحَنانْ / يا ألطف َ إنسانْ.
يا مَن غرَسْتِ الحِكمة َ في دمي وشراييني
أنت ِ مدرسة ُ البرِّ والإحسانْ
يا نبضَ عطفٍ لا يَتوَقَفْ عَن ِ الخَفقانْ.
أمي يا مَنْ سَلكتِ مَسْلكَ التوحيدِ والإيمانْ
لكِ مِني بطاقةُ حُبٍّ وامتنانْ.
كما يخصص للجد قصيدة أيضا، ولا ينسى شاعرنا غرضا رئيسا من أغراض الشعر ألا وهو الغزل، فنجده يتغزل بقريته، بوطنه وبمحبوبته، بشفافية وصدق:
قِصَّة عُمْر
يا زَهْرَة ً شَمَمْتُها / قُبَيْلَ الصُّبْحِ / فَفاحَ عِطْرُها / بَينَ الضُّلوعِ / وَغزا القَلْبَ السُّرورْ .
أنتِ الشفاءُ / لِعاشِقٍ مُتَيَّمٍ / كَواهُ الهَجْرُ / وأعْيَتهُ الدُّهورْ.
(قصيدة: قصة عمر).
أتوقُ إليكِ / في الصُّبْحِ وفي المساءْ / يا أجملَ امرأةٍ / خلقها الرَّبُّ / بينَ النساءْ.
أنتِ ملاكي / خُذيني بعيدًا / إلى أبعدِ الأرجاءْ.
(قصيدة "شعلتي" من ديوان: "همس السكون").
وهنا لا بد من توجيه تحية لأسرة أبي نزار التي تدعمه في مشواره الشعري والصحفي، وخاصة لمن يخصص لها قصيدة بعنوان: "إلى زوجتي الغالية" لأم نزار التي تدعمه وتشجعه على طول الطريق، فلها تحية خاصة.
وأخيرا لا يمكننا في هذه العجالة أن نستعرض مسيرة سنوات طويلة من العطاء، إنما قدمنا نماذج قليلة من فيض كبير ميز شاعرنا المحتفى به، وهنا لا يسعنا إلا أن نتمنى لأبي نزار الصحة والعافية والعمر المديد، والمزيد المزيد من العطاء الأدبي المثمر الإيجابي
وألف مبروك هذا التكريم