أحياناً تأخذنا خيالاتنا إلى عالم لا أرضي نبني فيه مدناً افتراضية حيث كل شيء يفيض جمالاً لا حدود له. هكذا هي كابادوكيا هذه البلدة التركية القابعة بين أنقرة وسيفاس وقونيا وملتايا والمطوّقة بجبال طوروس، تطلق لخيال زائرها العنان في تصور ما يمكن أن تكون عليه.
الوصول إلى كابوديا عند الغروب يتيح للزائر لحظات رائعة لا يمكن أن يعيشها إلا في كابادوكيا.
فعند الوقوف على مشارف هضبة حيث تنكشف البلدة، يتمتع زائرها بمشهد يعز نظيره في العالم، حيث تتلوّن صخورها المروّسة باللون القرمزي ليبدو قرص الشمس الأرجواني وهو يغيب وراء الهضاب لوحة ألوان تمسك البلدة بقبضتها لتنتقي منها ما تتوشح به لحظة شروق الشمس ومغيبها.
المتحف المكشوف روعة الطبيعة
هنا وسط أروقة التاريخ الطبيعي، جدران توالت النار والهواء والماء منذ ملايين السنين على تشكيلها، فيخيل له أنه يسمع صدى مطارق يضربها أناس أرادوا أن يسكنوا في جوفها، وهمس الأساطير يصدح في أرجائها. يحتوي مدخل المتحف على مجموعة من الكنائس الصغيرة والأديرة التي يعود تاريخها إلى الفترة الواقعة ما بين القرن السابع والثاني عشر ميلادي.
تتميز هندستها الداخلية بأسلوب بسيط يدل على الزهد في الحياة وتزين جدران بعضها الآخر وأسقفها رسوم من الفسيفساء لا يزال قسم منها على حاله منذ مئات السنين.
بين وادي الخيال وبلدة زليفة الطريق معبّدة بالمشاهد الخلابة
في وادي الخيال تترك الطبيعة الخلابة للزائر الحرية لتصور ما يمكن أن تمثّله بالنسبة إليه، فقد يتخيّل الصخور مجموعة أحصنة أو قد يتصورها عائلة مؤلفة من أم وأب وأبناء ترافقه حتى الوصول إلى بلدة زيلفيه وهي قرية يونانية قديمة، حصل عام 1924 اتفاق تبادل بين الحكومتين التركية واليونانية، فرحل عنها سكانها الذين كانوا من أصل يوناني إلى بلدهم الأم وعاد إليها أتراك كانوا في اليونان.
يقع عند مدخل القرية سوق تنتشر فيه البسطات التي تعرض التذكارات والأعمال اليدوية من الفخار، يتنافس الباعة في هذا السوق على جذب العابرين من خلال التنافس على خفض الأسعار. هنا يمكن ممارسة البراعة في المساومة.
بعد هذا الغذاء الروحي للفكر والمخيلة صوت المعدة يسكته مطعم وسط البلدة يقدم ما لذ وطاب من المطبخ التركي.
لكابادوكيا مساءً وجه آخر يكشفه الملهى الليلي بابا يازار حيث تقدَّم عروض فولكلورية خاصة بهذه البلدة. هنا تستقبل فرقة الفنون الشعبية الزائر برقصة حول النار ثم تبهره في تقديم رقصات فلكلورية تعكس حرفية أعضاء الفرقة وشغفهم بتراثهم رغم صعوبة الخطوات.
و لعل رقصة الخناجر أخطرها فتنقطع الأنفاس حين تتمدد فتاة على الأرض وينبسط فوق صدرها لوح خشبي صغير، ويتوالى الراقصون الشبان على التفنن في طريقة رمي الخنجر، واحد يثبته على جبينه ويقذفه، وآخر يضعه على ذقنه، و كلما رمي واحد تعلو صيحات الخوف لترتاح الأنفاس حين يسقط الخنجر في موضعه.
بلدة ديرنكويو مدينة إنسانية في جوف الأرض تضاهي مدن النمل
إذا كان سحر كابادوكيا الخارجي مذهلاً فإن ما تخبئه هذه البلدة في باطنها يقلب موازين ما يمكن خيال إنسان أن يأخذه إليه. هل تصورت يوماً وجود مدينة كاملة في جوف الأرض؟ ربما فكّرت في مدينة النمل، لكن مدينة إنسانية! إنها ديرنكويو التي تبعد 30 كيلومتراً عن وسط كابادوكيا. بنيت على عمق خمسين متراً في بطن الأرض، حفرها السكان للاحتماء من الغزوات، وكانوا يعيشون فيها ردحاً من الزمن عندما تطول الحروب.
السير في أروقة المدينة الضيقة، والتأمل في زواياها المكوّرة، والغوص في سراديبها، قد تسبب لك للحظات فوبيا الأمكنة المغلقة التي من المؤكد لم يشعر بها سكانها عندما كانوا يلجأون إليها لأن التشبث بالحياة أقوى من الموت.
ويخرج الزائر إلى النور بعد 30 دقيقة من التجوال في متاهة من متاهات كابادوكيا الجميلة.
كابادوكيا بلدة تنسج السحر من خيوط الشمس، وتحيك الأساطير من ضياء القمر ورفيقاته النجوم، فمداخن الجنيات كما يطلق عليها، لا يمكن أحدنا أن يفوّت التجوال بين أروقتها أو التحليق فوقها بالمنطاد والإستمتاع بها بكل أبعاد البصر.